(الرابع) منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ س1) هل تكفيرُ الواقع في الكُفرِ الأكبر، خاصٌّ بأهل العلمِ؟. جـ1) العلمُ درجاتٌ ومراتبٌ، فمن بلغهُ الإيمانُ بالله، فصدَّقهُ بقلبه، فهو من أهلِ العلم بالنسبة لمن جهل الإيمان واعتقد الكُفر. ولا يُوجد أحدٌ عرف حقيقة الإيمان، ثُم لا يعرفُ الإيمان من الكُفر، ويستوِي عندهُ المُؤمنُ والكافِرُ. فإنَّ من عرف حقيقة من الحقائق الثابتة، فإنَّهُ يعرفُ ضدَّها. ومن عرف طريقا يُوصِلُ إلى غاية مُعيّنة، عرفَ المُصيبَ السالك، الذي على الطريق الصحيح المُوصل إلى الغاية المُعيّنة، والمُخطئ الذي لم يُصب الطريق. ومن عرفَ أنّ نجاتهُ في تحقيق التَّوحيد والاجتناب من الشركِ، فإنّهُ لا يشكُّ في أنَّ الذي يُنكرُ التّوحيدَ، وينصُرُ الشركَ، ليس على طريق النجاة، وأنّهُ هالكٌ لا محالة، إن مات على هذا. وكذلك من عرفَ أنّ نجاتهُ في تصديق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومُتابعته، فإنّهُ لا يشكُّ في أنَّ الذي يُعادي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ويُنكرُ مُتابعته، ليس على طريق النجاة، وأنّهُ هالكٌ لا محالة، إن مات على هذا. وهكذا كُلُّ حقائق العقيدة، وهذا من البديهيات. وإذا كان المقصُود بأهل العلمِ، المجتهدين العالمين بالأصُول والفرُوع، فإنّ هؤلاء ينفردُون عن عامّة المسلمين بمعرفة مسائل كثيرة من المُكفّرات، أمّا ما هو ضدُّ الإيمان، كإنكار التّوحيد، والرسالة، والقرآن، والملائكة، والبعث بعد الموت، فإنّهم لا ينفردُون بعلم ذلك، ويُشاركهم عامّةُ المسلمين في معرفتها، لأنّهم لم يكتسبُوا صفة الإسلام إلا بقبُولها، والبراءة من ضدِّها. ولهذا قال العُلماء: "من لم يُكفّرْ الكافر فهو كافرٌ"، أو "منْ لم يعرف الكُفرَ لم يعرف الإيمانَ"، أو "منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ". س2) ما الدليلُ على أنَّ منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ، ومن عرف المُؤمن عرف الكافر المُعيّن؟ جـ2) إليك الأدلّةُ بإيجاز: (أولا) بيّن القرآن أنّ أحدا لا يصيرُ مُؤمنا وهو لا يعرفُ الفرق بين "الإيمان" وضدّه الذي هو "الكفر"، بل إنّه لا يصير مؤمناً حتى يكون "حنيفًا" بريئاً من الشرك ومن أهل الشرك. وقد أوجب الله على المؤمن أن يتبع سبيل الأنبياء والمرسلين الذين تبرؤُوا من أقوامهم المعينين المشركين. قال الله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4) فإذا عرفت أنَّ الله يُريدُ منّا البراءة من أهل الإشراك وقطع موالاتهم، فاعلم أنَّ الامتثال بالأمر الإلهي، لا يتحقَّقُ إلا بعد الاعتقاد بكُفر الفرد المعيّن الفاعل للشركِ، أو الجماعة المعيّنة، الفاعلة للشرك. فإنّ الله لا يُكلِّفنا بأمر لا سبيل إلي تحقيقه. (ثانياً) إنّ الإنسان لا يكون مؤمناً حتى ينال درجّة من العلم، فيعلم :- (1) أنّ الله هو الخالق المالك الرازق المحيى المميت المدبر لأمر الكون كلّه، وأنّه وحده المستحق للعبادة والطاعة ولا إله إلاّ هو ولا حاكم سواه. (2) أنّ لله ملائكة وهم عبادٌ مكرمون مقرّبون يؤدون وظائف مختلفة يطيعون الله فيها. (3) أنّ الله تعالي أنزل كتباً بيّن فيها كلّ الحقائق التي لا يستغني عن معرفتها الإنسان وبيّن فيها أوامره ونواهيه وآخرها القرآن الكريم. (4) أنّ الله تعالي كان يُرسل دائماً رسلاً مبشرين ومنذرين كلما انحرفت البشرية عن الإسلام والتوحيد ودخلت في الكفر والشرك وكان محمد صلى الله عليه وسلم آخرهم. (5) أنّ يوم البعث والحساب حقّ، وأنّ الله جعل ذلك اليوم ﴿ليجزي الذين أساؤُا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى﴾ فهذا القدر من العلم يستوي فيه المؤمنون وإن تفاضلوا في اليقين والإخلاص والعمل وكلّهم علماء فيه. ومن جهل هذا القدر من العلم فهو كافر جاهل. ومن عرفه واعتقده، ثم جحده وأنكره، فهو كافرٌ مرتدّ. ومن لم يعرف الكفر لم يعرف الإيمان، ومن شكّ في كفر الكافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فهو كافرٌ خارج عن ملّة الإسلام. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء: 136). فمعرفة هذه الأمور ليست قاصرة على العلماء وإنما هي معلوم بالضرورة من دين الإسلام. وكلّ مسلم داعيةٌ في هذه الأصول وغيرها من المعلوم من الدِّين بالضرورة كالصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وبرّ الوالدين وتحريم الخمر والميسر والربا والزنا وغير ذلك. وكل من تبلغه الحجّة الرسالية في قضية من القضايا فقد قامت عليه الحجة وإن كان مبلِّغها من عامّة المسلمين. قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام:19) فدلّت الآية على أنّ من بلغه القرآن، وفهِم المراد، فقد قامت الحجةُ عليه. وبعد هذا القدر من العلم الضرُوري، فإنّ الشريعة الإلهية متشعبة كثيرة الفروع، والمؤمنون متفاوتون في العلم بها، وبعضُهم أكثر أخذاً للعلم من بعضهم، وليس منهم أحدٌ إلاّ ويجهل بعض الشريعة. ولكنّهم جميعاً يؤمنون بالشريعة كلّها إجمالاً أي يعلمون أنّ كلّ ما جاء في كتاب الله حقٌّ من عند الله. وتوجد أمورٌ كثيرةٌ تُعرف بالنظر ويَعلَمُها العلماءُ أو بعضُهم، فوجب عليهم أن يكونوا قائمين بالحجّة وأن يُعلِّموا الناس ما جهلوه من دينهم، فمن قامت الحجة في نفسه، وتبيّن له الحقّ فهو الجدير بإقامة الحجّة على غيره. والقولُ بأنّهُ: "لا يُقيم الحجة إلاّ عالمٌ بها"، قولٌ صحيحٌ إذا كان المقصُود منه هو أنّ المسألة التي يعرفها كلُّ المسلمين، فكلُّ المسلمين يُقيمون الحجة الرسالية على غيرهم. والمسألة التي لا يعلمها إلاّ الخواص من أهل العلم فإقامة الحجّة على غيرهم خاصّةٌ بهم. وقد جعل الله للعلماء منْزلة رفيعة بين المؤمنين. قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11). ولذا فإنّ هناك أموراً كثيرة يعلمها بعض الناس أنّها كفرٌ وردٌ لأمرٍ من أوامر الله، أو خبرٌ من أخباره، ولا يعلمها الآخرون لقلّة معرفتهم للأوامر والأخبار. والحكام والقضاة في الإسلام هم رجالٌ مسلمون يؤدون وظائف شرعية، ويقيمون حدود الله على عباده، ولكنّهم كسائر المسلمين في معرفة الفرق بين المؤمنين والكافرين، ويجوز أن يكون في المسلمين من هو أعلم منهم بجوانب من أحكام الشريعة. (ثالثا) في كتاب الله أمثلة صريحة لمحاورات تقعُ بين الرسُل وأقوامهم المشركين. وفيها كذلك محاورات قد قامت بين مُؤمنين -ليسُوا بمرسلين- وكافرين، فدلّت على أنَّ من عرف الإيمان عرف الكُفر والكافرين، وإن كان من عامة المسلمين. فمما ورد في القرآن، ما يأتي: 1) ورد في القرآن حوار دار بين رجلين، شكّ أحدهما في أمر البعث. فقال الآخر المؤمن: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ (الكهف: 37). فدلّت الآية على أنّ للمؤمن أن يقول لمن كفر بالله كفراً ظاهراً، "أ كفرت بالله". والآية ذكرت منكر البعث، ومثله "منكر وجود الله" أو "المشرك بالله "، أو الكافر برسل الله، أو كتبه، أو ملائكته، فمن وقع في شيء من هذه المكفرات، يتحتم عليك أن تعتقد كفره، وإلاّ كنت من الخاسرين. قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (يونس: 95). 2) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ (الأحقاف: 17). يدلّ على أنّ الوالدين المؤمنين يستطيعان أن يعرفا كفر ابنهما إذا كان مظهراً للكفر، ولا ينتظران الإفتاء من العلماء والقضاة. 3) إنّ الله حرّم على الأولاد طاعة الوالدين في الشرك والكفر فقال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ﴾ (لقمان:15) فدلّت الآية على أنّ الولد إذا كان مؤمناً بالله، يستطيع أن يعرف كفر أبويه إذا وقعا في الشرك ودعوا إليه، ولا ينتظرُ الإفتاء من العلماء والقضاة. 4) وذكر الله تعالي أنّ أصحاب الكهف قالوا: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ (الكهف: 15ـ16). فدلت الآية على أنّ فتية أصحاب الكهف المؤمنين كانوا يعرفون أنّ قومهم مشركون ظالمون يفترون على الله الكذب لما اتخذوا الأنداد والآلهة الباطلة المعبودة من دون الله. ومعرفتهم لكفر القوم صادرة عن إيمانهم ويقينهم فهم لما عرفوا الإيمان عرفوا الكفر. وهذه من فضائلهم المذكورة في كتاب الله الخالد للتأسي والاقتداء بهم. (رابعا) إنَّ الله أنزل في كتابه أحكاما، أوامر ونواهي، ليتعامل على أساسها المُؤمنُون مع الكُفار، مما يدلُّ على ضرُورة تكفير المُعيّنين الذين كفّرهم اللهُ، فمثلا: 1) إنّ الله يأمر المؤمنين بجهاد المشركين وقتلهم وقتالهم. فقال تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:5). وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123). ولا سبيل إلي العمل بهذه الآيات وأمثالها، إلاّ بعد الاعتقاد بوجود أقوام معينين سمّاهم الله كفاراً، يُمكنُ أن نعرفهم بما يظهرونه من أقوال وأعمال. 2) نَهى الله عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، فقال: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة:221). ولا يمكن العمل بهذه الآية الكريمة والاجتناب عن الوقوع في الحرام إلاّ بعد الاعتقاد بأنّ النساء قسمان: "مؤمنات" و "مشركات كافرات". وأنّ هناك قواعد وحدوداً بيّنها الله، ويُعرف بها "المؤمنة" من "المشركة" على التعيين، ويُعرفُ بها كذلك " المؤمن " من " المشرك " على التعيين . (خامسا) إنّ الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أقواماً وأفراداً معينين لشركهم وعدم إيمانهم بالله. كما قاتلوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، أقواماً وأفراداً معينين لكفرهم وردّتهم بعد إسلامهم. فدلّ ذلك على أنّ تكفير الكفار المعينين ليس وقفاً على الأنبياء .. وإنما هو إيمان وعمل بكتاب الله وفريضة ملقاة على عاتق كلّ مؤمن ولا تختص بقوم دون قوم ولا بفرد دون آخر . (سادسا) إنّ الله تعالي أكثر في القرآن من ذكر "المنافقين" وأنزل سوراً وآيات كثيرة تبيّن صفاتهم التي تميّزهم عن المؤمنين الصادقين، وذلك كي لا ينخدع بهم المؤمنون. ومن المعلوم أنّ هؤلاء المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويدّعون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويبطنون الكفر وكراهية الحقّ ومعلوم كذلك أنّ الله كشف أسرارهم وأظهر نيّاتهم الخبيثة وبين سمّاتهم البارزة ليحذرهم المؤمنون ولا يثقوا بأكاذيبهم ودعاويهم. فإذا كان الله لا يريد ولا يرضى لعباده المؤمنين أن ينخدعوا ويثقوا بأولئك الكفار المنافقين الّذين لا يُظهرون كفرهم، فهل من المعقول أن يرضى لهم الانخداع والثقة للكفار المشركين الّذين يظهرون كفرهم وشركهم؟ وكيف لا ينخدع للمنافقين من انخدع للمشركين؟، وكيف لا يكون ذلك المنخدع مخالفاً للقرآن الكريم الّذي ينهى عن طاعة المشركين والمنافقين ويأمر بجهاد الفريقين. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الأحزاب: 1). قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التوبة: 73). (سابعا) إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، لما أوصى بطاعة أمراء المُسلمين في المعرُوف، قال "إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله برهان" (متّفق عليه). وهو يدلّ على أنّ في استطاعة المؤمن أن يعرف وقوع الأمير في الكفر البواح وخروجه عن دائرة الإسلام، او عدم وقُوعه فيه، وإلاّ لم يكن لهذا الشرط فائدة. (ثامنا) إنّ هذه المسألة، أي: معرفة المُؤمن كُفرَ المُعيَّنِ الواقع في الكُفرِ، من نوع الاجتهادِ الّذي لا يفتقرُ إلى علم كثير ولا إلى معرفة لغة العرب، وهو ما يعرف في أصول الفقه بـ"تحقيق المناط". أيْ أنَّ المسلم العالم أو العامي، إذا تبيّن لهُ حُكمُ مسألة من المسائل، فإنّ عليه العمل بها. فمثلا إذا عرفَ أنّ الخمر حرامٌ، وعرف عين الخمر، ثُمّ رأى رجُلا يشربُها، فإنَّهُ لا ينتظرُ من العلماء، أن يقُولُوا لهُ: "هذا شارب خمر". بل يجزمُ بذلك، ويشهدُ عليه أمام القاضي، أنَّ فلانا شاربُ خمر. وإذا عرف المسلم الأعجميّ وبلغهُ بلغته، أنّ الصلاة لا تصح إلاّ بشروط منها: "استقبال القبلة"، و"ستر العورة"، فإذا رأى هذا المسلم الذي لا يعرف العربية إنساناً يصلِّي عُرياناً، أو مستدبر القبلة، فالصواب أن يقول لهذا المصلِّي: "لم تصحّ صلاتُك" وأن يأمره بستر العورة واستقبال القبلة. وتكون الحجّة قد قامت بقوله هذا على المصلّي الذي صلّى الصلاة الفاسدة. ومن قال لهذا المسلم الأعجميّ: لماذا تأمرُ وتنهى وعلمُك قليلٌ ولا تعرف العربية فهو أضلّ من حمار أهله، لأنّ الاجتهاد هنا في تحقيق المناط الذي لا يفتقرُ إلى علم كثير ولا إلى اللغة .. ومن أنكره فقد خرج من زمرة العلماء والعقلاء. وكذا إذا أسلم الأعجميّ وعرف أنّ دعاء الأموات والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلاّ الله "شركٌ أكبر مخرجٌ من الملّة". وعرف أنّ الله قد أهلك أمماً كثيرةً بهذا الشرك وأمثاله، فإنّ علمَهُ هذا يجعله خائفاً من الوقوع فيه. ثُمّ إذا رأى هذا المسلم الأعجمي الذي لم يتعلّم اللغة العربية معتكفاً على قبرٍ يطلب منه المطر والرزق والأولاد .. فإنّه يعلم أنّه في الشرك الأكبر، وأنّ عليه أن يدعُوهُ إلى التوبة من هذا الشرك، وإلى إخلاص العبادة لله. ومن أنكر على هذا المسلم قيامه بالدعوة إلى الله وإقامته للحجّة على المشرك، فهو أضلّ من حمار أهله، ويكون قد خرج من زمرة العلماء والعقلاء، لأنّ الاجتهاد هنا في تحقيق المناط الذي لم ينكره إلاّ السفهاء والمجانين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تحقيق المناط: وهو أن يُعلِّق الشارع الحكم بمعنى كليّ فَيُنْظَرُ في ثبوته في بعض الأنواع وبعض الأعيان كالأمر باستقبال القبلة، واستشهاد شهيدين، وكتحريم الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، فيبقى النظر في بعض الأنواع هل هي خمر أو يمين وميسر وفدية أو طلاق. وفي بعض الأعيان: هل هذا المصلّي مستقبل القبلة، وهذا الشخص عدلٌ مرضيٌّ ونحو هذا. وهذا النوع من الاجتهاد متّفق عليه بين العلماء بل بين العقلاء". (الفتاوى:19/14) قُلتُ: قولهُ: "وهذا النوع من الاجتهاد متّفق عليه بين العلماء، بل بين العقلاء"، مُرادُهُ أنَّهُ لم يُنكرْ في العمل به إلاّ السفهاء والمجانين من البشر". وقال الإمام الشاطبي: (المسألة السادسة): "الاجتهادُ لا يتوقفُ على اللغة: قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر فى ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه". (الموافقات: 4/527). وهذه الأوجه الثمانية التي ذكرتها كافية للعلم بأنّ من آمن بالله، يعرفُ من كفر بالله فألحد أو أشرك إذا أظهر ذلك، فيكون عنده كافراً على التعيين. ومن آمن بالبعث والحساب، يعرفُ من أنكر وكفر بذلك، إذا أظهر ذلك فيكون عنده كافراً على التعيين. ومن آمن برسل الله وملائكته وكتبه يعرف من لم يؤمن بذلك إذا أظهر ذلك فيكون عنده كافراً على التعيين. وهذا في المسائل الواضحة والمكفّرات التي لا تخفي على المؤمنين. ولا شكّ أنّ هناك أموراً كثيرة يعرفها البعض أنّها كفرٌ ولا يعرفها الآخرون. وقد أخطأ الذين جعلوا المكفّرات كلّها على مستوى واحد. وجعلوا التكفير حقّاً خاصاً للعُلماء والحُكام والقضاة وقالوا "نكفّر الأعمال ولا نكفّر الأعيان". س3) ما صحّة قول البعض: "نكفّر الأعمال ولا نكفّر الأعيان"؟ جـ3) هذا القول خطأ من وجه، وصحيحٌ من وجه آخر. أمَّا الخطأ فهو الظنّ بأنّ "الأعيان" لا يُكفَّرون ولا يُعتقَدُ أنّهم قد كفروا مُطلقا، وإن فعلوا الكفر الأكبر. وبطلان هذا القول ظاهرٌ بحمد الله بالأدلّة المتقدِّمة وغيرها. وله وجهٌ من الصحة، وذلك إذا قال المفتي في سُلطان الدولة المسلمة: "إنِّي أُبيّن لكم القضايا المكفّرة لتجتنبوها وتأمروا الواقعين فيها باجتنابها، ولكن أنا لا أقولُ لكم فلان بن فلان قد ارتدّ ودمُه مباحٌ لكم، لأنّ إنزال العقوبات، وإقامة الحدود لولاة الأُمور ونوابهم وقضاتهم، ولستُ من أولئك، فأنا أُكفِّرُ الأعمال ولا أُكفّر الأعيان". هذا ما يُمكنُ أن يقوله العلماء المُفتُون الذين لا يُشغلون مناصب الدولة كالإمارة العامّة والقضاء وولاية الأمصار. وليس المعنى أنّ المُفتي لا يعلمُ كُفرَ الكافر المُعيّن إذا كفر، وإنّما هو على سبيل ترك وظيفة القضاء لمن تولّاها. س4) هل هُناك فرقٌ بين تكفير الوثنيّ أو الكتابيّ المعيّن، وبين تكفير الواقع في الكفر، وهو يشهدُ الشهادتين وينتسبُ إلى الإسلام؟ جـ4) لا فرق بين جميع أصناف الكُفار المظهرين لكُفرهم، فكلُّ من أظهر ما ينقُضُ الإيمان، فهو كافرٌ في كتاب الله، وإن انتسب إلى الإسلام. وصحّة ذلك يظهرُ لك من وجوه: (أولاً) إنّ الله تعالي هو الذي قسم النّاس إلي مؤمنين وكافرين قال تعالي: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (التغابن: 2). وبيّن أنّ المؤمن هو: من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (النساء: 136). والكافرُ هو كلّ خارج من الإيمان، ومن خرج من الإيمان خُرُوجا ظاهرا مع الانتساب إلى الإسلام، فهو من أهلِ الكُفرِ مع انتسابه، إذ ليس في الدُنيا دينٌ إلا الإيمان أو الكُفر. قال تعالى: "لكُم دينُكم ولي دين". والخارجون عن الإيمان أمّة واحدة، وحزبٌ واحدٌ، هو "حزبُ الشيطان" وان اختلفوا وتنوّعوا في الضلال. فأهل الأوثان أصبحوا كفاراً خارجين عن الإيمان لشركهم وإنكارهم للمعاد والحساب فلم تنفعهم معرفتهم بوجود الله وكونه فاطر السماوات والأرض ومدبر الكون. وأهل الكتاب أصبحوا كفاراً خارجين عن الإيمان لشركهم وتكذيبهم لبعض رسل الله فلم تنفعهم معرفتهم بوجود الله وملائكته واليوم الآخر وانتسابهم الي رسل الله وكتبه. ومن كفر وهو ينتسب إلى الإسلام، فقد دخل في ملّة الكُفر، وتُسمِّيه الشريعةُ "كافراً مرتداً". والمتوقفُ عن تكفير المرتدين الذين ظهر كفرهم كالمتوقف عن تكفير اليهود والنصارى ومشركي العرب. (ثانياً) قد ارتدت طوائف متنوعة عن الإسلام وهي لا تزال تنتسب إليه فاجمع المسلمون على تكفيرهم، ولم يروا انتسابهم إلي الإسلام مانعا من ذلك. ولم يخلُ قرنٌ من قُرُون الإسلام من طائفة كافرة مُنتسبة إلى الإسلام. وكان مانعو الزكاة الذين ظهروا في خلافة الصديق رضي الله عنه من أخفّهم كفراً. وكانوا يشهدون الشهادتين ويزعمون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .. وقد روي الإمامُ الشافعيُّ أنّ بعضهم قال: "ما كفرنا بالله ولكنّنا شححنا بأموالنا". ولكنّ الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم قتال الكفار لعلمهم أنّ من منع الزكاة فقد كفر ببعض الكتاب، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالكتاب كلّه. ومن كفر بالكتاب كلّه فقد كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. (ثالثاً) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل المرتدين فقال: "من بدل دينه فاقتلوه" (البخاري). وبيّن مع ذلك أنّ ضلال هذه الأمة سيكون مشابها لضلال أهل الكتاب الذين كفروا بالله وهم يدّعون الإيمان به. وهذا ظاهر من الحديث الصحيح: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة حتي لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه". قالوا: "يا رسول الله اليهود والنصارى؟". قال: "فمن"؟. فالتوقفُ عن تكفير المرتدين المنتسبين إلى الإسلام تغييرٌ لشريعة الله، ومخالفة للأمر النبوي بقتل المرتدين لأنّ القتل لا يقع إلاّ على معيّن. والإنسان المؤمن قد يكون في وضع لا يقدر فيه على تنفيذ القتل على المرتدين ولكن لا يحلّ له أن يجعل المرتدين المجرمين كالمسلمين المتقين في الولاء والتعاون والتآخي. قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم: 35-36). س5) هل يدخُلُ المتوقفُ عن تكفير المشرك المُنتسب إلى الإسلام في عمُوم "من لم يكفِّرْ الكافر، فهو كافرٌ"؟، وهل ذكر ذلك أحدٌ من أهلِ العلم؟ جـ5) كُلُّ من توقّف عن تكفير من أظهر كُفرًا أكبر، مع علمه بحاله، وثُبُوت كُفره، فهو كافرٌ، وإن كان مُنتسبا إلى الإسلام. ونقل القاضي عياض الإجماع على ذلك. قال في "الشفا": "وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نصَّ الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ولهذا نُكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحّح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافرٌ بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". وقال الإمام ابن تيمية: "وهكذا هؤلاء الاتّحادية فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة. فإنه من أعظم الزنادقة الّذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر" (الفتاوى: م 2/ص: 130). وقال: "ومن كان محسناً للظنّ بهم وادّعى أنّه لم يعرف حالهم عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلاّ ألحق بهم وجعل منهم" . وقال: "ومن لم يكفّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتّحاد أبعد" (الفتاوى: م 2/ ص: 133). وقال الإمام مُحمّد بن عبد الوهاب، في "الواجبات المتحتمات": "الثالث: من لم يكفّر المشركين او يشكُّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر".