(الثاني) لا يُعذرُ بالجهل في أصْلِ الإيمان س1) ما الدليلُ على أنَّ من أشرك بالله جاهلا، يستحقُّ أن يُوصف بالشرك؟ جـ1) إنَّ الله صرح بأنَّ الجهل صفة أهلِ الشركِ، فدلَّ ذلك على أنَّ من أشرك بالله جاهلا، يستحقُّ أن يُوصف بالشرك، بل دلَّ ذلك على أنَّ أهلَ الجهل من المشركين، كانُوا أكثرَ من أهلِ العلم والعناد. وإليك أدلّة القرآن: 1) ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:30) قال الإمام الطبري، في تفسير هذه الآية: "هذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أنّ الله لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربّه فيها، لأنّه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنّه مهتد وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية" (جامع البيان). 2) ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف:104) وقال الطبري في تفسيرها: يقولُ: هم الَّذين لم يكن عملهم الَّذى عملوه فى حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنَّهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفرمنهم به ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ يقول: وهم يظنُّون أنَّهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلامن حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أنَّ الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الَّذين وصف صفتهم فى هذه الآية، أنَّ سعيهم الَّذى سعوا فى الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنَّهم محسنون فى صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنَّهم هم الَّذين كفروا بآيات ربِّهم. ولوكان القول كما قال الَّذين زعموا أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم فى عملهم الَّذى أخبر الله عنهم أنَّهم كانوا يحسبون فيه أنَّهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكنَّ القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جلَّ ثناؤه عنهم أنَّهم بالله كفرة، وأنَّ أعمالهم حابطة". 3) ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التّوبة:6) قال الطبري: ﴿ذلكَ بأنَّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرآن، وردّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله". 4) (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (الْبَيِّنَةُ :1). فسمّاهم مشركين قبل مجيء الرسُول. 5) ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 172-173) قال القرطبي: "بمعنى لست تفعل هذا ولا عُذر للمقلّد في التوحيد" الجامع لأحكام القرآن 6) ولقوله تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (النازعات: 17). وقوله: ﴿إنّهُ كان من المُفسدين﴾ (القصص:4) وقوله: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ (طه:39). وفيه دليلٌ على أنّ فرعون كان عدواً لله، وطاغية، ومُفسداً قبل مجيء موسى إليه بالدعوة الإسلامية. وهذا يدلُّ على أنَّ الواقع في الشرك الأكبر العابد لغير الله، كافرٌ بالله إن كان مُعاندًا أو كان جاهلا. لأنَّ المُؤمن هو من دُعي إلى الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر، فاستجاب وآمنَ. فمن لم تبلغهُ الدعوة إلى الإيمان فهو كافرٌ جاهلٌ، ومن بلغتهُ فردّها، فهو كافرٌ مُكذِّبٌ. س2) ما الدليلُ على أنَّهُ لا يجُوزُ أنْ يُوصف الإنسانُ بالإيمان والإسلام لله، وهو على الشرك الأكبر وعبادة غير الله؟. جـ 2) لا يجُوزُ ذلك لأدلّة كثيرة منها: 1) قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى قوله ﴿لكم دينكم ولي دين﴾ (الكافرُون: 1-2) فدلّت الآيةُ على أنَّ اسم "الكافر" هو الإسم الشرعي لمن يعبُدُ غير الله. وأنَّ التوحيد والشرك الأكبر ضدّان لا يجتمعان في قلب، فمن ثبت أنَّهُ على الشرك الأكبر فقد ثبت أنّه خارجٌ عن الإيمان والإسلام. 2) وقوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4) = قال الإمامُ الطبري في التفسير: وقوله: ﴿إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يقول: حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله، وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد. وقوله: ﴿كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ العَدَوَاةُ والبَغْضَاءُ أبَدا حتى تُؤمِنُوا باللَّهِ وَحْدَهُ﴾ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة: كفرنا بكم، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا. وظهر بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا ولا هوادة، حتى تؤمنوا بالله وحده، يقول: حتى تصدّقوا بالله وحده، فتوحدوه، وتفردوه بالعبادة. ـ اهـ س3) اذْكُر من أقوال العُلماء ما فيه تصريحٌ بتكفير المشرك الجاهل الذي لم تبلغهُ الرسالة؟ جـ3) من ذلك ما يأتي: 1) قال الإمام منصور بن محمّد السمعانى (489ﻫ) في "قواطع الأدلَّة": "إنَّ الاختلاف بين الأمَّة على ضربين، اختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة، واختلاف لايوجب البراءة ولايرفع الألفة، فالأول كالاختلاف فى التَّوحيد. قال: من خالف أصله كان كافراً وعلى المسلمين مفارقته والتبرُّؤ منه وذلك لأنَّ أدلَّة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم، وعمَّ وجودها فى كلِّ مصنوع فلم يعذر أحدٌ بالذهاب عنها، وكذلك الأمر فى النُّبوة لقوَّة براهينها، وكثرة الأدلَّة الباهرة الدالَّة عليها، وكذلك كلُّ ما كان من أصول الدِّين، فالأدلَّة عليها ظاهرة باهرة، والمخالف فيه معاند مكابر، والقول بتضليله واجب، والبراءة منه شرع". 2) قال الشيخ الإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516ﻫ): "فيه دليل على أنَّ الكافرالَّذى يظنُّ أنَّه فى دينه على الحقِّ والجاحد والمعاند سواءُ". وقال فى" شرح السنَّة": "العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والصفات، وتصديق الرسل، فعلى كل مكلف معرفته، ولا يسع فيه التقليد لظهور آياته، ووضوح دلائله، قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (محمد: 19). وقال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ (فصلت: 53)، 3) وقال الإمامُ ابن تيمية: وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه‏: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾‏ (‏هود‏: 50‏)‏ فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال‏: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا" ـ اهـ 4) وقال الإمام "ابن القيم" (ت: 751ﻫ) فى طريق الهجرتين: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" (طريق الهجرتين: 411) وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 28). "فهذا استدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير)، 5) وقال الإمام "الصنعاني"(1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد: بعد أن بيّن أنّ القبوريين مشركون: "فإن قلت هم جاهلون أنّهم مشركون بما يفعلونه، قلتُ: قد خرّج الفقهاء في كتب الفقه، أنّ من تكلّم بكلمة الكفر كفر وإن لم يقصد معناها وهذا دالٌ على أنّهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ما هية التوحيد فصاروا حينئذ كفّاراً كفراً أصلياً"، فإن قلتَ: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين؟ قلتُ: إلى هذا ذهب أهل العلم فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد" 6) وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206ﻫ): "فإنّك إذا عرفت أنّ الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظنّ أنّها تقرّبه إلى الله زلفى كما ظنّ المشركون" (كشف الشبهات). 7) وقال سيّد قطب، في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 40). "وكونهم لا يعلمون لا يجعلهم في دين الله القيّم فالذي لا يعلم شيئاً لا يمكن الاعتقاد فيه ولا تحقيقه، فإذا وجد ناسٌ لا يعلمون حقيقة الدين لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنّهم على هذا الدين، ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام ذلك أنّ الجهل مانعٌ للصفة ابتداء، فاعتقاد شيء فرع عن العلم به، وهذا منطق العقل والواقع، بل منطق البداهة الواضح"(اﻫ) س4) هل ثبت عن أحدٍ من علماء السلف القول بأنّ الكافر الجاهل مَعذُورٌ عند الله؟ جـ4) لم يُنقَلْ ذلك عن أحد من السلف إلا عبيد الله العنبري والجاحظ المعتزلي، وذُكر أنّ عُبيد الله تاب من ذلك، وذُكر أيضا أنَّهُ لم يقصُد مسألة التّوحيد والرسالة، بل مسائل الصفات والقدر والرؤية وأمثالها. وأمّا الجاحظ فقد صرح أنّ الكفار الجهال كُفارٌ في أحكام الدُنيا، ولكنّهم معذُورُون في الآخرة، وقد كفّرهُ بعضُ العُلماء بذلك. وقال الإمام أبو محمَّد ابن قدامة الحنبلى (ت: 620ﻫ) فى "روضة النَّاظر": "الحقُّ فى قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ سواء كان فى فروع الدِّين أو أصوله، لكنَّها إن كان فى فروع الدِّين مما ليس فيه دليل قاطع من نصٍّ أو إجماع فهو معذور غير آثم وله أجرٌ على اجتهاده". قال: "وزعم الجاحظ أنَّ مخالف ملَّة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحقِّ فهومعذور". وقال عبيد الله العنبرى: "كلُّ مجتهد مصيب فى الأصول و الفروع جميعا" وهذه أقاويل باطلة، أمَّا الَّذى ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفرٌ بالله تعالى، وردٌ عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فإنَّا نعلم قطعا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنَّصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمَّهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلم أنَّ المعاند العارف مما يقل، وإنَّما الأكثر مقلَّدة إعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرَّسول وصدقه، والآيات الدالَّة فى القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27). ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (فصلت: 23). ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ (الجاثية: 24). وقوله: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (المجادلة: 18). ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: 30). ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ (الكهف: 103-105). س5) لماذا يقُولُ بعضُ الشيُوخ المعاصرين، لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه؟ جـ5) الّذين يقُولُون: "لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه"، أخطأُوا في فهم بعض أقوال العُلماء، فوضعُوها في غير مواضعها، وردُّوا بها النصُوص القرآنية الثابتة، فضلُّوا. إنَّ أهل العلمِ الّذين ذكرُوا أنَّهُ "لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه"، لم يكُنْ مُرادُهم العُمُوم، بل كانُوا يُريدُون نوعا من المسائل المتعلّقة بالعقيدة، مما هُو دُون التَّوحيد والرسالة، فإنَّ مسائل الدِّين على أربعة أقسام: (القسم الأول) وهو ما لا يختلفُ فيه المسلمون من مسائل الإيمان، ولم يستحقُّوا اسم "المسلمين" إلا بها، وإنَّما يختلفُ فيها أهلُ الإسلام وأهلُ الملل الكافرة. كمسألة التَّوحيد والبراءة من الشرك الأكبر، ومسألة رسالة مُحمّد صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ القرآن كتابُ الله، وأنَّ البعث بعد الموت حقٌّ. وهذه المسائل لم يختلفْ فيها المسلمُون، ومن أنكرها عنادا أو جهلا لا يكُونُ من أهلِ الإسلام. (القسم الثاني) وهو ما وقع فيه اختلاف بين المسلمين من مسائل اعتقادية، مع ظُهُورِ أدلّتها، فخالفها أقوامٌ، فسُمُّوا بـ"الفرق المُبتدِعة"، كمسألة الرؤية، وتأويل الصفات، والتكفير بالذُنُوب، وأفعال العباد، والصحابة، وغيرها. وهي التي يقُولُ عنها العُلماءُ: "لا ينبغي تكفير جاهلها قبل إقامة الحُجّة عليه"، أو يقُولُون: "يُعذرُ بالجهل في مسائلُ الأصُول". ولنأخُذ كلام الإمام ابن تيمية كمثال يُفرِّقُ بين هذين القسمين: بيّن الإمام ابن تيمية في قوله السابق، أنّ اسم المشرك يثبُتُ قبل الرسالة، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، واستدلّ بالكتاب والسنَّة، فمن عبد غير الله فهو مُشركٌ عنده، وإن لم يأته من يُقيمُ عليه الحجّة. وصرح الإمام في موضع آخر أنّ المسلم لا يكفّر ابتداء إذا جحد مقالة من المقالات الخفيّة. التى يُمكنُ أن تخفى عليه أمّا إذا جحد التوحيد أو الصلاة أو الحجّ أو غيره مما هو معلُوم من الدين بالضرُورة، فإنّه يكفّر وهذا نصه:- "وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها. ولكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث بِها وكفّر من خالفها مثل: عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإنّ هذا أظهر شعائر الإسلام. ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر. ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين". (اﻫ) فبيّن هُنا أنّ من المسائل ما هو خفيٌّ، لا يُدْركُهُ كُلُّ النّاس، مع أنّ لها أدلّة ثابتة، فيُقالُ عن مخالفها الجاهل: "إنَّهُ مخطئٌ ضال لم تقم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها"، ثُمّ صرح بأنّ عبادة الله وحده لا شريك له، والنَّهي عن عبادة أحد سواه، ليست من هذه المسائل، وأنَّ من خالفها يصيرُ مُرتدّا. وأولئك الشيُوخ المعاصرون، يُريدُون إدخال مسألة "التّوحيد"، في المسائل الخفية، والقول بأنَّ من أشرك بالله جاهلا لا يُكفَّرُ، ومن كفّرهُ فقد كفّر مُسلما، ولهُ عُقُوبة الخوارج. وهذا من أقبح تحريف الكلم عن مواضعه. (القسم الثالث) وهي مسائل لا يجهلُها من هو بين المُسلمين، سواء كانت مُتعلّقة بالعقيدة أو بالعمل، كمباني الإسلام، وكتحريم الظلم، والخمر، والميتة، وذوات المحارم، وغيرها. وعُرفت هذه المسائل بـ "المعلُوم من الدِّين بالضرُورة". ولا يُعذرُ أحدٌ بجهلها إلا حديث العهد بالإسلام، أو الناشئ ببادية بعيدة عن مظان العلم. (القسم الرابع) وهي ما يختلفُ فيه العُلماء من المسائل بعد هذه الأقسام الثلاثة، ويكُونُ من اجتهد فيها فأصاب لهُ أجران، ومن اجتهد فيها فأخطأ لهُ أجرٌ، كما ورد في الحديث. وهي كثيرة لا تنحصرُ. س6) يقُولُ بعضُ الشيُوخ إنّ تقسيم المسائل الدينية إلى أصُول وفرُوع باطلٌ، ومسائلُ الدِّين كُلّها على درجة واحدة، وينسبُون ذلك إلى ابن تيمية، فما صحّةُ ذلك؟ جـ6) إن شريعة الله لها أصولٌ وفروعٌ، ولا يُجادل في ذلك إلاّ جاهلٌ لم يعرف حقيقة الشريعة. إذ أنّ مِن أوامر الشرع ما إن لم يأت به العبد لا يصحّ له إيمانٌ وإسلامٌ، ولا ينفعه العمل بجميع ما سوى ذلك من أحكام الشرع، فلذلك قيل إنّها "أصول الدِّين"، لأنّ العمل بالدِّين كلّه لا يصحُّ من العبد إذا لم يُحقِّق هذه الأصول التي هي: "الإيمان بالله -أي: عبادته وحده لا شريك له- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه". فإذا صحّ الإيمان بذلك صحّت صلاة العبدِ وزكاتُه وحجُّهُ وصيامُه وجهادُه، وأُثيب على اجتنابِ المحرّمات والكبائر. قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم: 24) قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله:﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ شهادة أن لا إله إلاّ الله. ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وهو المؤمن، ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ يقول: لا إله إلا الله ثابت في قلب المؤمن، ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ يقول: يُرفَع بها عمل المؤمن إلى السماء. (تفسير ابن جرير الطبري). ففسّر ابن عباس الأصل الثابت بالتوحيد الذي بالقلب، وفسّر الفرع بالأعمال. والإمام ابن تيمية هو من أكثر العُلماء ذِكرًا لكون التَّوحيد -أي: عبادة الله وحده لا شريك له- أصلَ الدِّين. وإليك بعض أقواله من الفتاوى: قال: "وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدِّين الذي لا يقبل الله من الأوّلين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل ونزّل الكتب" (الفتاوى:1/143) وقال في (نفس المجلّد. ص: 310): "ودين الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله". والأصلُ الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحبّ، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏".‏ وقال في صفحة (333): "فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما‏:‏ ألا نعبد إلا الله‏.‏ والثانى‏:‏ ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة‏.‏ وهذان الأصلان هما تحقيق ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏". وهذا الذي يُقرِّره الإمام هو مما اتّفقت عليه الأمّة، فلم يظهر من علماء الإسلام في جميع الأجيال من يُسوِّي بين جميع الأوامر الإلهية ويقول:"التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق على مرتبةٍ واحدةٍ". أو "أنّ الإيمان بالرسول كالصدقة على المسكين". أو "أنّ الإنسان يدخل في الإسلام إذا تصدّق أو صلّى أو حجّ أو أماط الأذى عن الطريق وهو مشركٌ بالله". وهذا من أفسد الأقوال، وهو لازم قولِ الذين ينكرون أنّ في الشريعة أُصولاً وفروعاً. أمّا التقسيم الذي هو من أُصول أهل البدع فهو أنّ بعضهم قسَّم الشريعة إلى مسائل علمية، وهي مسائل العقيدة. ومسائل عملية، وهي فعل الواجبات وترك المحرّمات. فسمُّوا القسم الأول "الأصول" والقسم الثاني "الفروع"، ثم قالوا: إنّ الإنسان لا يُعذر إذا جهل مسائل الأصول، ويُعذر في الفروع. وقد أخطأوا، لأنّ من مسائل العقيدة ما ثبت بأخبار الآحاد، وما اختلف فيها الصحابة من غير أن يُكفّر بعضهم بعضاً مثل: = هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه في الدنيا؟ = هل المعوّذتان من القرآن أم من الأذكار المشروعة؟ = هل البسملة آيةٌ من كل سورة أم لا؟ = هل تجوز القراءة بالضمّ في قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ (الصافات: 12) ومن مسائل الفروع ما يكفُرُ مُنكرُها لكونها من المعلوم من الدِّين بالضرورة مثل: وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ وبرّ الوالدين والجهاد. ومثل: تحريم القتل والزنا السرقة والخمر والميسر وغير ذلك. وقد ردّ الإمام ابن تيمية تقسيم أهل البدع هذا، فظنّ بعضُ السذج أنّ أوامر الشرع على مرتبة واحدة في الأهمية، لا فيها أصول وفروع، فضلُّوا وأضلُّوا، ولو نظروا إلى أقوال الإمام التي قرّر فيها أنّ التوحيد أصلُ الدِّين ما وقعوا في هذا الخطأ الفاحش.