(الخطأ الرّابع والعشرُون) في تسوية الظنون: جاء في الجواب: (وأما ما ذكرتم من أن من كفر مسلما بدرت منه بعض علامات النفاق، فهو مجتهدٌ لا يُكفّرُ، كما فعل عمر بن الخطاب، فهو تحكم من غير دليل، وإلا فما هو الفارق بين الظنون والتأويلات، أعني الفرق بين من ظنّ بإسلام كافرٍ في الحقيقة، ومن ظنّ بكفر مسلم على الحقيقة؟) والجوابُ: (أولا) إنَّ هذا الإعتراض سببه سوءُ الفهم للمسائل الدّينية، والظنُّ بأنَّها على مرتبة واحدة، ولأجل هذا الخطأ الكبير، إستوى عند صاحب الجواب، المُخطئ في توحيد الله، أو في رسالة الرّسُول صلّى الله عليه وسلم، والمخطئ في فهم آية من القرآن، أو في الجمع بين النُّصُوص. وصاحبُ الجواب قد اعترف بأنَّ المسائل الدّينية ليست على مرتبة واحدة، وذلك لما عرَّف "أصل الدين الذي لا عُذرَ لأحدٍ فيه بجهلٍ أو تأويل"، وذكر أنَّهُ الشهادتان، وما يدخُلُ في معناهما، ولكن يبدُو أنَّهُ لا يعملُ بالذي أصَّله. إذ لو كان يعملُ بأصله، ما قال: " فما هو الفارق بين الظّنون والتأويلات؟". إنَّ الظّنون والتأويلات ليست على درجة واحدة، فمذاهبُ وعقائدُ الكُفّار كُلّها ظنُونٌ وتأويلات فاسدة، لا يُقرُّها عليهم الشرعُ والعقلُ، ومن رضي بها، وأنكر التوحيد، والرّسالة، والبعث والحساب، لا يُعذرُ بظنِّه الفاسد، وجهله بأصل الدّين. وجاء في القرآن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام:116) و﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام:148) و﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ﴾ (يونس:66) و﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى. وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (النجم: 27-28) وكذلك الفرق المبتدعة من الخوارج والمعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم، عقائدُهم ظنُون وتاويلات فاسدة، ولكنّهم دون المشركين في الحكم. ومذهبُ غالب أهلِ السنَّة، أن لا يُكفّرُوا ابتداء، إلاّ من كان ضلالهُ في التوحيد والنبوّة وما يدخلُ في أصلِ الدّين. واختلافات الفقهاء الّتي لا تُحصى، واجتهادات المجتهدين، لاتخلوا من ظنُون وتأويلات. ومن سوَّى بين الظّنُون، وجعلها كلّها على مرتبة واحدة، فقد سوَّى بين أكفر النَّاس، وأورع النَّاس في الأحكام، وهذه من أعظم مزالق الأقدام. (ثانيا) إذا علمت أنَّ الظّنون والتأويلات ليست على درجة واحدة، فاعلم أنّ المكَّفرين للمسلمين، ليسوا على درجة واحدة، وذلك بالنَّظر إلى الباعث على التكفير. فمنهم من يُكفّرُ المسلم بلا سبب، إلاّ أنه يوحّد الله، فيرميه بالكفر بُغضاً لتوحيده، وظنّاً منه أن التوحيد كفرٌ. ومنهم من يُكفّرُ المسلم على سبيل السبِّ. ومنهم من يُكفّرُ المسلم من غير بُغضٍ لتوحيده، ولكن بُغضاً لذنبه، وظنّاً منه أنَّ الذنوب تُخرج أصحابها من الملّة، كما فعلت "الخوارج". ومنهم من يُكفّرُ المسلم، ويرميه بالنفاق بتأويل سائغ، كمن رأى من مسلم، ما هو من علامات النفاق، فرماه بالنفاق غيرةً لله ولدينه. وكذلك يختلفُ الباعث على إدخال الكافر في الإسلام، والحُكم بأنَّهُ مُسلمٌ، فمنهم من يُدخلُهُ في المسلمين لجهله بالتوحيد، وظنّه بأنَّ الشركَ لا ينقضُ التَّوحيد. ومنهم من يُدخلهُ لأنَّهُ عرف إسلامهُ ولم يشهد كُفرهُ. ومنهم من يجعلُ الكافر مسلماً بسبب إظهار الكافر للإسلام والصّلاح وإخفائه لكفره. فالظّنون والتّأويلات ليست على درجة واحدة، والبواعث على التكفير كذلك ليست على درجة واحدة، وأسبابُ الحكم على إسلام الكافر، ليست على درجة واحدة.