(الخطأ الخامس) في دعوى التّناقض: جاء في الجواب: (قال: وهذا التحرير يناقضُ التقرير الأول حيث ذكرتم أنّ أصل الدين الَّذي لا عُذر لأحد فيه هو: الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ولم تدرجُوا تكفير المنتسب فيه ثم ذكرتم لاحقا أنَّهُ من أصل الدين الَّذي لا عُذر لأحد فيه، وهذا يتطلبُ منكم التوفيق والجمع). الجواب: إنَّ الإيمان بالله لا يصحُّ إلا بالتّوحيد، والتَّوحيدُ لا يصحُّ إلا بالبراءة من الشّرك وأهله، وبُغضهم في الله واعتقاد كُفرهم. فمن ذكر "الإيمان بالله"، أو "التَّوحيد"، في "أصلِ الدِّين"، فقد ذكرالبراءة من الشّرك وأهله، وبُغضهم في الله وتكفيرهم. فإنَّ رسُلَ اللهِ كانُوا يُخبرُون أهل الشّركِ، وهم في شركهم: أنَّ الرسُل بُرآءُ منهم، ومن شركهم، وأنَّهم بعبادتهم غير الله قد صارُوا كافرين، بربِّهم مُشركين، وأنَّ العداوة والبغضاءَ بادية بينهم حتى يُؤمنُوا بالله وحدهُ. وهذا البيان من الرّسُل لم يكُن يتأخَّرُ عن بيان الإيمان بالله والتّوحيد، فهو من "تحقيق التّوحيد"، ويدلُّ على أنَّ المشركين كانُوا على علمٍ، بأنَّ من اتَّبع الرُّسل طريقهُ البراءة من الشّرك وأهله، وبُغضهم في الله وتكفيرهم. ولذلك لم يكُن من أتباع الأنبياء، من يقُولُ: "أنا أسلمتُ، ولكن لا أتبرَّأُ من أهلِ الشّركِ". وإنَّما يقُولُ ذلك من لم يفهم التَّوحيد المطلوب، والتّحقيق الّذي يتطلَّبه. فتدبَّرْ هذه الآيات البيّنات المُحكمات: قال تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4) وقال: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام:19) وقال: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256) وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الأنعام:74) وقال: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 78-82). وإليك بعض أقوال أهل العلم في هذا الموضُوع الخطير: قال الإمام ابنُ تيميّة: "فهذا البغض والعداوة والبراءة مما يعبد من دون الله ومن عابديه: هي أمور موجودة في القلب، وعلى اللّسان والجوارح، كما أنّ حبّ الله وموالاته وموالاة أوليائه: أمور موجودة في القلب، وعلى اللّسان والجوارح، وهي تحقيق قول: "لا إله إلّا الله" وهو إثبات تأليه القلب لله حبّاً خالصاً وذلاً صادقاً. ومنع تأليهه لغير الله، وبغض ذلك وكراهته. فلا يعبد إلا الله، ويحبّ أن يعبده. ويبغض عبادة غيره" (الفتاوى:14/277) وقال: "فأمر المؤمنين أن يتأسّوا بإبراهيم ومن معه حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيّئة؟! (الفتاوى:8/303). وقال:"وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل عليه السّلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لابِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلا ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُۥ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 ـ 28] وقال: ﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ ٱلاقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّىۤ إِلا رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [الشعراء: 75 ـ 77] (الفتاوى:13/178). وقال: "فإنّ أهل الملل متفقون على أنّ الرّسل جميعهم نهْوا عن عبادةِ الأصْنام، وكفّروا من يفعل ذلكَ، وأنّ المؤمنَ لا يكون مؤمناً حتى يتبرّأ من عبادة الأصنام، وكلّ معبود سوى الله، كما قالَ الله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىۤ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰۤؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِٱللهِ وَحْدَهُ﴾ (الفتاوى:2\115) وقال الإمام محمّد بن عبد الوهاب:"لا يصحُّ دينُ الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء -أي الطّواغيت المعبُودة من دون الله- وتكفيرهم، كما قال تعالى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾. (الدرر السنية:10\53) وقال: "فأمَّا صفة الكُفر بالطاغُوت: فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها وتُكفِّر أهلها، وتُعاديهم. وأمَّا معنى الإيمان بالله: فأن تعتقد أنَّ الله هو الإله المعبُود وحده، دون من سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلّها لله، وتنفيها عن كلّ معبُود سواه، وتُحبَّ أهلَ الإخلاص وتُواليهم، وتُبغض أهل الشركِ وتُعاديهم" (الواجبات المتحتّمات) وقال عبد الرحمن بن حسن:"أجمع العلماءُ سلفاً وخلفاً من الصحابة والتَّابعين، والأئمَّة، وجميع أهلِ السُنَّة، أنَّ المرْء لا يكُونُ مُسلماً إلا بالتَّجرُّد من الشّركِ الأكبر، والبراءة منه، وممّن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطّاقة والقُدرة، وإخلاص الأعمال كلّها لله." (الدرر السنية:11\545) وبعد هذا البيان يظهرُ لطالب الحقِّ أنَّ من أخرجَ البراءة من الشرك وأهله، وبُغضهم في الله واعتقاد كُفرهم، من أصلِ الدِّينِ ينقصُهُ الفهم الصّحيح للتَّوحيد، الَّذي هو أصلُ الدِّينِ، وأنَّ من صحَّ فهمُه، لا يجدُ تعارضاً، بين القول بأنَّ أصل الدِّين هو "الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". وبين القولِ بأنَّ تكفير الكافر المشركِ من أصلِ الدِّين.