(الخطأ الحادي والعشرُون) في معرفة المجادلين عن المشركين: جاء في الجواب: (وأمَّا ما ذكرتُم من أنَّهُ لا يعرفُ الكُفر، ولا يعرفُ التَّوحيد، فدعوى عارية عن الدليل، وأنتم مُطالبُون قبل كلِّ شيء بتصحيح الدعوى، لأنَّ هذا يُقرُّ أنَّ ما تفعلُهُ القبُورية وأمثالهم كفرٌ وشركٌ، وفاعلهُ من غير عُذرٍ مُشركٌ كافرٌ بالله العظيم.) والجوابُ: سُؤالُك كان عن جنسِ من لم يُكفِّرْ "المشرك المُنتسب"، ولم يكُن عن حُكم شخصٍ معيَّن، فأجبنا بجوابٍ مُناسب، هو أنَّهُ لا يعرفُ الكُفر، ولا يعرفُ التَّوحيد. ولم أتكلَّم عن أهل العناد الذين يردُّون الحقَّ عن علم. وذلك أنَّ غالبَ من وجدناهُم يُجادلون عن أهلِ الشّركِ -غير أهل العناد- لم يكُونُوا يعرفُون التَّوحيد، ولا الشّرك الأكبر، وكانُوا على درجتين: (الأولى) وهي درجة المنكرين لتكفير من ينطقُ بالشّهادتين: = وهم الَّذين يقُولون: "أهلُ لا إله إلا الله، لا يُكفَّرُون وإن أشركُوا، وإن ماتُوا على الشركِ، يدخُلون الجنَّةَ بما معهم من الإيمان !!". = ويقُولون: "الاستغاثة بغير الله مسألة خلافيّة، ووُجِد من العلماء من يَعُدُّها في الشّرك الأصغر، ومن يعُدُّها في الشّرك الأكبر.!!" = ويقُولون: "إنقطع الشّركُ بمبعث النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، وبقيت البدع!!". = ويقُولون: " نُكفِّرُ الأعمال، ولا نُكفِّرُ الأعيان !!". إلى غير ذلك من أقوالٍ لا تصدُرُ عن عالمٍ بالتَّوحيدِ، عالمٍ بالواقع المُحيط به. (الثانية) وهي درجة أصحاب التّكفير السّلبي: وهمُ الّذين يُقرُّون بأنَّ ما تفعلهُ القبُوريّة وأمثالهم كفرٌ وشركٌ، وفاعلهُ من غير عُذرٍ مُشركٌ كافرٌ بالله العظيم، ولا يقصُدون بالعُذر الإكراه والخطأ، بل يُعذرُونهم بالجهل. وهؤلاء لم يعلمُوا حقيقة التَّوحيد بعدُ، ويظهرُ لك جهلهم من وجوه: (الأوّل) إنَّ التَّوحيد الَّذي هو "أصلُ الدِّين" هو عندهم، قولُ "لا إله إلّا الله، مُحمّدٌ رسُولُ الله". أمَّا معنى "لا إله إلاّ الله"، الّذي هو إخلاصُ العبادة لله، وتركُ الشرك، فلا يرونهُ أصل الدِّين. فإنَّك إذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمع بقول "لا إله إلا الله" قطّ؟ لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". وإذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمعْ بإخلاصُ العبادة لله، ويُشركُ بالله، وينطقُ بلا إله إلاّ الله؟، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". فتبيَّنّ من ذلك، أنَّهم يُفرِّقُون بين اللّفظ والمعنى، فصار اللّفظ عندهم من أصلِ الدّين، الَّذي لا يُعذرُ أحدٌ فيه بالجهل، بينما صار معنى "لا إله إلاّ الله"، خارجاً من أصلِ الدّين، فيُعذرُون فيه بالجهل، وهذا من أبعد الضّلال عن التَّوحيد. وذلك أنَّ المعنى أهمُّ من اللّفظ من وجوه: (أولاً) إنَّ الألفاظ وُضعتْ للمعاني، فهي وسيلة للتعبير عن المعاني المقصُودة، فإذا تجرَّدت عن معانيها صارت عديمة الفائدة. ولذلك لم ينفع قول "لا إله إلاّ الله" اليهُود، وهم في مدينة الرّسُول صلَّى اللهُ عليه وسلّم، وقد أقرَّ بعضهم بأنَّهُ رسُولُ الله، لأنَّ المعنى الذي وُضعتْ كلمةُ الشّهادة لهُ، لم يكُن يتحقَّقُ بإقرارهم. (ثانيا) يصحُّ الإسلامُ بسائر اللّغات، ولو لقنَ الأعجمي الكلمة العربيّة، "لا إله إلّا الله"، فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. وقد أرسل اللهُ كُلَّ الرُّسل بـ"لا إله إلّا الله"، وذكر أنَّهم كانُوا مختلفين في اللّسان، مع اتِّفاقهم في القصد من الكلمة. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25) وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم:4) قال الشّافعي: "ولو أقرَّ أعجميّ بالأعجميّة، فهو كإقراره بالعربيّة، لأنّ الكلام موضوع ليبيِّن المتكلّم به عن غرضه. ثم لمّا كان إيمانُ الأعجميّ بلسانه كالعربيّ، إقتضى أن يكون إقراره بلسانه كالعربيّ". (المجموع شرح المهذَّب:22/324) بينما لا يصحُّ الإسلام،ممن يُصرُّ على إظهار الشّركِ بالله،وترك الإخلاص، وإن كان من النّاطقين بالشّهادتين. قال الحافظ إبن حجر: قال الحليمي: "ولو قال اليهوديّ لا إله إلّا الله لم يكن مسلما حتى يقرَّ بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثنيُّ: لا إله إلّا الله، وكان يزعم انّ الصّنم يقرِّبُه الى الله، لم يكن مؤمنا حتّى يتبرّأ من عبادة الصّنم" (فتح البارى:كتاب التّوحيد) (ثالثا) كلمة "لا إله إلاّ الله"، لها كلمات تقُوم مقامها، ويصحُّ الإسلامُ بها، مثل: "آمنتُ بالله ورسُوله"، و"أسلمتُ لله"، وغير ذلك. أمّا معناها فلابدَّ من تحقيقه، ولا يصحُّ إسلامُ من هو مُظهرٌ للشّرك الأكبر بحال. (الثاني) إذا سألتهم: ما حُكمُ من يعتقدُ بنبوّة النَّبيِّ مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلّم، ونبُوَّة أحدٍ بعدهُ في آنٍ واحدٍ؟، لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". وإذا سألتهم: ما حُكمُ من يدعُو الله، ويدعُو غيره، ويذبحُ لله، ويذبحُ لغيره، في آنٍ واحدٍ، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". فالشّركُ في عبادة الله، لا يُبطلُ الإسلامَ عندهم، والشركُ في النُّبوَّة يُبطلهُ، فما الجهلُ بالتَّوحيد، إن لم يكُنْ هذا؟. (الثالث) إنَّهُم يجهلون أنَّ التَّوحيد المطلوب هو الّذي تلزمُ منهُ البراءةُ من الشّرك وأهله، ولذلك يقُولون عن المُشركِ إنَّهُ مُسلمٌ، والمُسلمُ هُو المُتَّبع لملَّة إبراهيم ومحمّد والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، والأنبياءُ لم يكُونُوا من المُشركين، بل كان لهم دينهم، وللمشركين دينهم. (الرّابع) يعلمُون أنَّ من جحد الصّلاة، أو الزّكاة، أو واجباً من الواجبات المعلومة من الدّين بالضّرُورة، يرتدُّ بمجرَّد الجحد والإنكار، ولو في مرَّة واحدة، ولا ينجُوا من القتل بالرّدَّة إلا بإحداث توبة. أمّا جاحد التَّوحيد فلا يرتدُّ عندهم، ولو استمرَّ في شركه طول عمره. فوضعُوا التَّوحيد الَّذي هو أصلُ الدِّين، في مرتبة دون مرتبة الواجبات والمحرَّمات، وهذا جهلٌ بقدر التَّوحيد.