(الخطأ الحادي عشر) في إعذار المجتهد المخطئ: جاء في الجواب: (إنما يرى أنّ حكم الشرك يرفع عن من وقع فيه، إن كان جاهلا، كما يُرفعُ عن المكره والمخطئ). الجواب:(أوّلا) مسائلُ الدِّين التي قد يختلفُ فيها النَّاسُ، ويجتهدُون فيها، على ثلاثة أقسام: (أوّلها) هو التَّوحيد وغيرهُ من أصُولِ الإيمان، ومن زعم أنَّهُ قد اجتهد في معرفتها وبذل فيها وسعهُ، وعجز عن إدراكها، وضلَّ عن الإيمان بها، فليس بمعذور، وهو كافرٌ في الدُّنيا، إمَّا كافرٌ جاهلٌ، وإمَّا كافرٌ مُعاندٌ. (الثاني) ما كان فيها نصُوص قطعيّة، ولكنّها من المقالات الخفيّة، الّتي قد يجهلها بعضُ النَّاس، أو يضلُّون عنها بتأويلٍ فاسدٍ. ومن زعم أنَّهُ قد اجتهد في معرفتها، وبذل فيها وسعهُ، وعجز عن إدراكها، فهو معذورٌ قبل البيان وإقامة الحُجَّة، أمَّا بعدها فليس بمعذور، وهو كافرٌ مُكذّبٌ بالحقِّ. (الثالث) وهو الإختلاف الّذي يقعُ بين أهلِ العلم فى النَّوازل الَّتى عدُمت فيها النُصوص فى الفروع، أوغمُضت فيها الأدلَّة، فيُرجع فى معرفة أحكامها إلى الإجتهاد، ويكُونُ للمُصيبِ أجران، وللمُخطئ أجرٌ على اجتهاده. عن عمرو بن العاص أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا إجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا إجتهد فأخطأ، فله أجر" (البخاري) قال الإمام منصور بن محمّد السمعانى (489ﻫ) فى "قواطع الأدلَّة": "إنَّ الإختلاف بين الأمَّة على ضربين، إختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة، وإختلاف لا يوجب البراءة ولايرفع الألفة، فالأوّل كالإختلاف فى التَّوحيد. قال: من خالف أصله كان كافراً وعلى المسلمين مفارقته والتبرُّؤ منه وذلك لأنَّ أدلَّة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم، وعمَّ وجودها فى كلِّ مصنوع فلم يعذر أحدٌ بالذهاب عنها، وكذلك الأمر فى النُّبوة لقوَّة براهينها، وكثرة الأدلَّة الباهرة الدالَّة عليها، وكذلك كلُّ ما كان من أصول الدِّين، فالأدلَّة عليها ظاهرة باهرة، والمخالف فيه معاند مكابر، والقول بتضليله واجب، والبراءة منه شرع، ولهذا قال إبن عمر حين قيل له: إنَّ قوماً يقولون: لاقدر، فقال: بلِّغوهم أنَّ ابن عمر برئٌ منهم و أنَّهم منِّى براء. قال: "والضّرب الآخر من الإختلاف لايُزيل الألفة، ولايُوجب الوحشة، ولا يُوجب البراءة، ولايقطع موافقة الإسلام، وهو الإختلاف الواقع فى النَّوازل الَّتى عدُمت فيها النّصوص فى الفروع، وغمضت فيها الأدلَّة فيُرجع فى معرفة أحكامها إلى الإجتهاد". اهـ وقال الإمام ابن تيميّة، بعد ذكره لضلالات المتكلّمين، من المنتسبين إلى الإسلام: وهذا إذا كان في المقالات الخفيّة فقد يقال: إنه فيها مخطىء ضال، لم تقم عليه الحجّة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظّاهرة التي تعلم العامّة والخاصّة من المسلمين أنّها من دين المسلمين؛ بل اليهود والنصارى يعلمون؛ أنّ محمداً صلّى الله عليه وسلّم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيّين والشّمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك. فإنّ هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصّلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنّصارى والمشركين والصّابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والرّبا والخمر والميسر ونحو ذلك. ثم تجد كثيراً من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام" (الفتاوى:4\43) وقال الإمام "ابن القيم" (ت: 751ﻫ) فى طريق الهجرتين: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يُخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" [طريق الهجرتين: 411] وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]: "فهذا إستدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عُذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير) (ثانيا) ليس في أمَّة الإسلام، من هو معرُوف بالعلم، وقال: إنَّ من ضلَّ عن التَّوحيد فأشرك باللهِ، أنَّهُ معذورٌ إذا كان قد إجتهد وبذل وسعه في إدراك الحقّ... لم يقُلْ ذلك صراحة إلا الجاحظ ، المعتزلي الضال، وهو على ضلالهِ يقولُ: "أنهُ معذورٌ في الآخرة، أمَّا في الدُّنيا فله أحكامُ الكفّار"، وكذلك هو يشترط الاجتهاد وبذل الوسع، ومع ذلك كفّرهُ بذلك كثيرٌ من العُلماء. فكيف بمن يقُولُ: "إنَّهُ مُسلمٌ في أحكام الدُّنيا"، ولا يشترط الاجتهاد وبذل الوسع، لا شكَّ أنَّهم أولى بالتّكفير من الجاحظ. ذكر القاضي عياض مقالة الجاحظ ، وأنَّهُ كان يرى:"أن كثيراً من العامّة والنّساء والبله ومقلّدة النّصارى واليهود وغيرهم لا حجّة لله عليهم، إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال". قال: وقائل هذا كلّه كافر بالإجماع على كفر من لم يكفّر أحداً من النّصارى واليهود وكلّ من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شكَّ". (الشفا:2\167). وقال ابنُ قدامة:"أمَّا الَّذى ذهب إليه الجاحظ فباطلٌ يقينا وكفر بالله تعالى، وردٌ عليه وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإنَّا نعلم قطعا أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أمر اليهود والنَّصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمَّهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلم أنَّ المعاند العارف مما يقل، وإنَّما الأكثر مقلَّدة إعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرَّسول وصدقه، والآيات الدّالَّة فى القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]. وقوله ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23]. (روضة الناظر).