(الخطأ الثالث) في إسلام من لم يبلغهُ الإنذار: جاء في الجواب: (إذا لم يعرف حديث العهد بالإسلام المعاد الأخروي فهل يُعذرُ بالجهل؟، مع أنَّ أصلكم يقتضي أن لا يصحّ لهُ إسلام حتى يعرف المعاد الأخروي) والجوابُ: إنَّ دعوة الإسلامِ دعوةٌ واحدةٌ، وهي الَّتي قرَّرتُها في الجواب الأوّل، وذكرتُ أدلَّتها هناك، وهي "الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، وحديث العهد بالإسلام هو الذي بلغتهُ هذه الدعوة، وأظهرَ القبولُ والاستجابة في زمن قريب، وحُكمَ بإسلامه. ومن حُكمَ بإسلامه وهو في دار الإسلامِ، فادَّعى أنَّهُ لا يعرفُ المعاد، فإنَّهُ لا يُصدَّقُ، لأنَّ أصُولَ الإيمان تُبلّغُ إلى الكُفّار، وهم كُفّارٌ، وإنَّما يُسلمُ منهم من أظهر التّصديق بعد بلوغ العلمِ. وهو كمن ادَّعى الجهلَ بالتَّوحيد، أو الرّسالة، وهو في دار الإسلام، لأنَّ أصول الإيمان مُتلازمة، فيُحكمُ بردَّته، ويُستتابُ، وإن ادَّعى شُبهاتٍ أزيلت عنهُ. ومن ادَّعى الإسلامَ مع الجهلِ بالمعاد، وهو في دارِ الكُفرِ، عُلمَ أنَّهُ لم يبلغهُ الإنذار، ولم يصحّ إسلامُهُ، لأنَّهُ لا يرجُوا حسابا ولا ثوابا، ولا يخشى عذاباً، وإنَّما سمع ألفاظاً تُقالُ فقالها. وليس إنكارُ المعاد كإنكار شيءٍ من "الإيمان الواجب"، لأنَّ المرء كان يصحُّ إسلامُه، قبل نزول الواجبات والمحرَّمات، وإنَّما يكفرُ من أنكرَ معلوماً من الدّين بالضّرُورة منها، ويُعذرُ حديث العهدِ بجهله، ولا يُحكمُ بردَّته. والَّذين لم يفهمُوا حقيقة دعوة الرُّسل، وظنُّوها ألفاظاً تُقالُ، وإنْ تلبَّسَ القائلُ بما ينقضُ الألفاظ من الكُفرِ الصّريحِ، هم الَّذين يظنُّون أنَّ مثلَ هذا قد صحَّ إسلامُهُ، لأنَّ الإسلام قراءة ألفاظ عندهُم وقد قرأها. قال الإمام ابن تيميّة: وهذا في القرآن في مواضع آخر: يُبيّن فيها أنّ الرّسل كلّهم أمروا بالتّوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء من المخلوقات سواه، أو اتّخاذه إلهاً؛ ويخبر أن أهل السعادة هم أهل التّوحيد، وأنّ المشركين هم أهل الشّقاوة. وذكر هذا عن عامّة الرّسل، ويُبيّن أنّ الّذين لم يؤمنوا بالرّسل مشركون. فعُلم أنّ التّوحيد والإيمان بالرّسل متلازمان. وكذلك الإيمان باليوم الآخر هو والإيمان بالرّسل متلازمان. فالثّلاثة متلازمة. ولهذا يجمع بينها في مثل قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَاتِنَا وَٱلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِٱلاخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلونَ﴾ [الأنعام: 150]، (الفتاوى:9/ ص:5) وقال أيضاً:"ومثل ذلك قوله:﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ هَادُوا وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]. فذَكر أنّ المؤمنين بالله وباليوم الآخر من هؤلاء هم أهل النّجاة والسّعادة، وذكر في تلك الآية الإيمان بالرّسل، وفي هذه الإيمان باليوم الآخر، لأنّهما متلازمان، وكذلك الإيمان بالرّسل كلّهم متلازم. فمن آمن بواحد منهم فقد آمن بهم كلّهم، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلّهم. كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ ٱللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا. أُولَئِكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [النساء: 150، 151] الآية والتي بعدها. قال: "والحاصل: أنّ توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر هي أمور متلازمة مع العمل الصّالح. فأهل هذا الإيمان والعمل الصّالح: هم أهل السّعادة من الأوّلين والآخرين، والخارجون عن هذا الإيمان: مشركون أشقياء. فكلُّ من كذَّب الرُّسل فلن يكون إلاّ مشركاً، وكلُّ مشركٍ مكذّبٌ للرّسل، وكلُّ مشركٍ وكافرٍ بالرّسل فهو كافرٌ باليوم الآخر، وكلُّ من كفر باليوم الآخر، فهو كافرٌ بالرّسل وهو مشركٌ". (الفتاوى:9/ص:30) وقال:"قلت: ما ذكره من أنّ أصول الإيمان ثلاثة فهو حقّ كما ذكره، ولا بدّ من الثّلاثة في كلّ ملّة ودين، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ هَادُوا وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]. ونحو ذلك في سورة المائدة. فذكر هذه الأصول الثّلاثة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصّالح. وأما الثّلاثة الأخر التّابعة فهي داخلة في هذه الثّلاثة". (الفتاوى:17/ص:5) وقال الإمام ابن القيِّم: "فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانيّة ولهذا كان الصّحيح أن المعاد معلوم بالعقل وإنما اهتدى إلى تفاصيله بالوحي ولهذا يجعل اللّه سبحانه إنكار المعاد كفرا به سبحانه لأنّه إنكار لقدرته ولإلهيته وكلاهما مستلزم للكفر به قال تعالى: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئكَ ٱلاغْلَٰلُ فِىۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَـٰۤئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ﴾. (مدارج السالكين:1\125)