(الخطأ الأوّل) في تعريف أصل الدِّين: جاء في الجواب: (أصلُ الدينُ هو ما يدخلُ به المرء في الإسلام (الشهادتان) وما يدخل في معنى الشهادتين، وما لا يدخُلُ في معنى الشهادتين لا يدخلُ في أصلِ الدين الذي لا عُذرَ فيه لأحد إلا بإكراه، أو انتفاء قصد) ... (وأما أنتم فقد ذكرتم أنَّ أصلَ الدين الذي لا يُعذرُ أحدٌ فيه بجهل أو تأويل هو: الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.) والجواب: من الظّاهر أنَّ الكاتب يجدُ تعارُضاً بين التّعريفين، ونحنُ لا نجدُ تعارُضاً، والسّببُ أنَّ بيننا وبين الكاتب تبايُناً في الفهم والتّصوُّر. وإليك البيانُ، فأقُولُ: هناك فرقٌ بين تصوُّرين: (الأوّل) أن يتصوَّرَ الإنسانُ أنَّ النَّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم كان الواجبُ عليه إبلاغ المشركين أصلَ الدِّين الإسلامِي، قبل فروعه، وأنَّ ذلك الأصل هو الشهادتان، فإن استجاب أحدٌ الدعوة، ونطق بالشهادتين، صار مُسلماً، ثُمَّ كان يتعلّمُ باقِي أصُولِ الإيمان، وهو مُسلمٌ، مثل الإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر. (الثّاني) أن يتصوَّرَ الإنسانُ أنَّ النَّبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم كان يجبُ عليه إبلاغ المشركين أصلَ الدِّين الإسلامِي، قبل فروعه، وأنَّ ذلك الأصل هو الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وإن إستجاب أحدٌ الدعوة كان يأتي إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقُولُ: "أشهدُ أن لا إله إلّا الله، وأنَّ مُحمّدا رسُولُ الله"، أو يَكتفي بالإقرار بالتّوحيد، أو بالإقرار بالرّسالة. أو يقُولُ: "آمنتُ بالله"، أو "أسلمتُ لله". وكُلُّها تعبيرٌ عن الإجابة إلى الإيمان، وقبول الدّعوة إلى "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". فمن كان من أهلِ التّصوُّر الأوّل يجدُ اختلافا بين التّعريفين، ومن كان من أهل التّصوُّر الثّاني، لا يجدُ اختلافا بين التّعريفين، فينبغي قبل كُلِّ شيء الرجوع إلى الأدلَّة لمعرفة الصّحيح من التّصوُّرين، أو الفهمين. ومن رجع إلى الأدلَّة عرف صحَّة التّصوُّر الثّاني، وذلك من عدَّة أوجه: (الوجهُ الأوّل) كونُ القرآن دلَّ على أنَّ دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام كانت: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قبل الدّعوة إلى إلتزام الأحكام الشّرعيَّة الفرعيّة. وأنّ بيان الرسل للإيمان كان جملة واحدةً، وفي آن واحد، أي: أنَّهُ لم يكن بين بيان ركن التّوحيد وبيان الرّسالة فترة زمنيّة، وكذلك لم يكن بين بيان الرّسالة وبيان البعث والحساب فترة زمنيّة، وهكذا. فكلُّ رسُولٍ كان بشيرا ونذيرا، وكان يقول لقومه في اليوم الأوّل: "أنا رسول الله، أرسلني بالتّوحيد ونبذ الشّرك، ومن أطاعني دخل الجنّة يوم القيامة، ومن عصاني دخل النّار". وهذا لا يُجادلُ فيه أحدٌ، ولا يقدرُ أحدٌ على مُعارضته، إلا من لا يؤمنُ بأنَّ القرآن حجة الله على خلقه، أو من كانت ثقتُهُ بكلام البشرِ فوق ثقته بكلام الله. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. وقال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. ﴾ (فصلت: 6-7) وقال: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف:59] وقال: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 107-108]. وقال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ (سبأ:46) وقال: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ (البقرة:213) وقال: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء:165) (الوجهُ الثاني) دلَّ القرآنُ على أنَّ دعوة النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم إلى "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، كانت قد بلغت المُشركين، وأنَّهم أنكرُوا ذلك، وكانُوا يُعارضُونها بظنُونهم وأهوائهم. فقد عارضُوا التَّوحيدَ بقولهم: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص:5) ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا﴾ (هود:62) وعارضُوا كون مُحمّدٍ صلَّى الله عليه وسلم رسول الله بمثل قولهم:﴿أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ (الصافات:36) ﴿ويقُولُون إنَّهُ لمجنُون﴾ (ن:51). وعارضُوا الوحي والكتاب بقولهم: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الفرقان:5) وقولهم: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:91) وعارضُوا البعث والحساب بقولهم: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ (المؤمنون:82) ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ (ق:3) فلا يقدرُ أحدٌ على القولِ بأنَّ المشركين في عهد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم، كانُوا لا يُدركُون أنّ المطلُوب منهم، هو: "الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، كما لا يقدرُ أحدٌ على إنكارِ اكتفاء النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم منهم بالشهادتين أو ما يدلُّ على قبُول الإيمان، ممّن أرادَ الإسلام منهم. كما قال القاضي عياض: اختصاصُ عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلّا الله، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان." (شرح مسلم) ومن زعم أنّ الرّسُل عليهم الصّلاة والسّلام، كانُوا لا يذكُرون غير التَّوحيد، والرّسالة، وأنَّهم كانُوا يُعلّمون النَّاس "الإيمان باليوم الآخر"، و"الإيمان بالكتاب"، و"الإيمان بالملائكة"، بعد إسلامهم، فليُدعّم زعمه بدليل، ولا سبيل إلى دليل يردُّ هذه الأخبار الثّابتة في القرآن، لأنَّها أخبارٌ من الله، والأخبارُ لا تُنسخ. (الوجهُ الثالث) لم يثبُتْ في الكتاب والسّنَّة، ما يدلُّ على أنّ دعوة النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم إلى "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، لمّا بلغت المُشركين، كان بعضهم يدخُلُ في الإسلام بالنُّطق بالشهادتين وهو يُعلنُ إنكارَهُ بباقِي أصُولِ الإيمان، بل الثّابت الّذي لا شكَّ فيه أنّ الأمر كان على ما ذكرتُ، وأنَّ من شهد الشّهادتين، كان مُؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وثبت في الحديث الصّحيح، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم، جعل قضيّة الإيمان قضيّة واحدة لها أركان وتفاصيل، لمّا سألهُ جبريل: "فأخبرني ما الإيمان؟". فأجاب: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". فإذا كان هذا هو الإيمان المطلوب من جميع العبادِ، ودلَّ القرآنُ على كُفرِ فاقدِ الإيمان كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة:5) وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]. عرفتَ أنَّ المؤمنَ هو الذي حقّق هذا الإيمان بأركانه تلك قولاً وعملاً ونيّةً. والكافر هو الذي كفر بذلك ، سواء كان سبب كفره العناد أو الجهل والتّقليد أو الشّكّ والنّفاق. (الوجهُ الرّابع) إنَّ علماء الإسلامِ لا يُثبتُون إسلاما صحيحاً لمُنكِر القرآن أو البعث والحساب أو الملائكة، لمجرّد نطقه بالشّهادتين، وأمَّا إذا أثبتُوا إسلام الكافرِ بالشّهادتين، فهو لعلمهم بأنَّ أصُولَ الإيمان مُتلازمة، وأنَّ من أقرَّ بالتّوحيد، أو بالتّوحيد والرّسالة فقد أقرَّ بالقرآن واليومِ الآخر والملائكة. ولأجل ذلك يُفرِّقُون بين إقرار الوثنيِّ وإقرار الكتابيّ وإقرار المرتدِّ الذي كفر بإنكار معلوم من الدّين بالضّرُورة. فيقُولون عن الأوّل: يُكفُّ عنه إذا قال: "لا إله إلّا الله". وقالوا عن الثّاني: لا يُكفُّ عنه وإن قال: "لا إله إلّا الله"، حتى يقُول: "محمدٌ رسُولُ الله". وإن كان من أهل الكتاب المُعتقدين بأنَّ محمداً رسُولُ الله إلى العرب خاصة قالوا: لا يُكفُّ عنه إذا قال: "لا إله إلّا الله محمدٌ رسُولُ الله"، حتّى يقول: "إلى جميع الخلق". وقالوا عن الثّالث: لا يُكفُّ عنه وإن قال: "لا إله إلّا الله محمدٌ رسُولُ الله "، حتى يرجع عمَّا إعتقده. وهذا مبسُوط في كتب الفقه. و نأخذ كمثال قولين للإمام الشّافعيِّ والبغويّ. قال الإمام الشّافعيّ في "الأُمّ": الإقرار بالإيمان وجهان: "فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوّة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل. قال: ومن كان على دين اليهوديّة والنّصرانيّة فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله. فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا". فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتّى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ ممّا خالف دين محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلّم، أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد إستكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلّا قُتل. فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوّة محمّد صلَّى الله عليه وسلم، إلّا عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوّته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد إستكملوا الإقرار بالإيمان. فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلّا قُتلوا"(موسوعة الشّافعيّ،المجلّد السّابع. ص: 596) وقال الإمام الحسين البغويّ: "الكافر إذا كان وثنيّا أو ثنويّا لا يقرّ بالوحدانيّة فإذا قال: "لا إله إلاّ الله" حُكم بإسلامه ثم يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقرّاً بالوحدانيّة منكرا للنّبوّة فإنّه لا يُحكم بإسلامه حتّى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أنّ الرّسالة المحمديّة إلى العرب خاصّة، فلابدّ أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو إستباحة محرّم فيُحتاج أن يرجع عمّا إعتقده. ا ﻫ [فتح الباري: 12/279] وهذا يدلُّ على أنَّ المُعتبر عندهم هو تحقيق الإيمان، وليس مُجرَّد قراءة ألفاظ. ولو كان أصلُ الدِّين هو النّطق بالشّهادتين، وإن لم يُؤمن النَّاطقُ بباقي الأصُول، لاتَّفقت كلمتُهم عن جميع الكُفّار، ولقبلوا من الجميع النُّطق بالشّهادتين في الإقرار.