(الخطأ التّاسع) في التّفريق بين المنتسب وغيره من المشركين: وجاء فيها: (فهو لا يرى الشرك إسلاماً، ولا يرى المشرك مسلما، إنما يرى أنّ حكم الشرك يرفع عن من وقع فيه، إن كان جاهلا، كما يُرفعُ عن المكره والمخطئ). الجواب:في هذا الكلام خطأ كبير، وهو الظنُّ بأنَّ الّذين يعبُدون غير الله، على قسمين: 1) قسمٌ علماء معاندُون، ليس لهم عُذرٌ. 2) وقسمٌ جُهّالٌ معذورون. وهذا التّقسيم لا أصلَ لهُ في شريعة الله، ويرُدُّهُ أمران: (أوّلا) أنَّ غالب المشركين كانوا جهلاء، وكانوا قبل مجيء الرّسُول صلّى اللهُ عليه وسلّم مُشركين جهلاء، موصُوفين بالشرك، قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (الْبَيِّنَة: 1) وقال: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة:6) قال الإمام ابنُ تيميّة:وكذلك أخبر عن هود أنّه قال لقومه: ﴿أعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ﴾ [هود: 50]، فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر، فإسم المشرك ثبت قبل الرّسالة؛ فإنه يشرك بربّه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أنداداً قبل الرّسول، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهليّة، يقال: جاهليّة وجاهلاً قبل مجيء الرّسول، وأما التّعذيب فلا". (الفتاوى:20\37) (ثانيا) جميعُ علماء الأمَّة على أنَّ ما خوطبَ به الذين كانُوا يعبُدُون غير الله، في زمن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلّم، يُخاطَبُ به كُلّ من يعبُدُ غير الله، في جميع الأزمان والأمكنة. وأنَّ وعيد اللهِ لاحقٌ بالجميع. قال الإمام الطّبري، في التّفسير: ﴿قُلْ إنَّنِي هدانِي رَبِّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دِينا قيمَا مِلَّةَ إبرَاهيمَ حَنيفا ومَا كانَ مِنَ المشرِكِينَ﴾ "فكان من فارق دينه الذي بعث به صلّى الله عليه وسلّم، من مشرك ووثنيّ ويهوديّ ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع، قد ابتدع في الدِّين ما ضلّ به عن الصّراط المستقيم والدّين القيم، ملة إبراهيم المسلم، فهو بريءٌ من محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومحمّد منه بريء، وهو داخل في عموم قوله: إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ." قال الإمام ابنُ تيميّة: فإنّ قوله: ﴿قُلْ يَـٰۤأَيـُّهَا الْكَـٰفِرُونَ﴾ خطابٌ لكل كافرٍ" وقال:" ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك ـ اعتقادي وعملي" وقال: "وقوله: ﴿أَفَغَيْرَ ٱللهِ تَأْمُرُوۤنِّىۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَـٰهِلُونَ﴾ خطابٌ لكل من عبد غير الله، وإن كان قد قُدر له أن يتوب فيما بعد. وكذلك كل مؤمن يخاطِبُ بهذا من عبد غير الله. (لفتاوى:16/534) قال ابنُ كثير في التّفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (الكافرون: 1-2) هذه السّورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه. فقوله تعالى: ﴿قُلْ يَـٰۤأَيـُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ﴾ يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش. قال: "وقال البخاري يقال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ الكفر ﴿وَلِىَ دِينِ﴾ الإسلام". قال الإمام النَّووي (ت: 676ﻫ) فى"شرح مسلم": (باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النّار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابيّ اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك. إنَّ من غيَّر اسمَ شيء مُحرَّم، وسمَّاهُ باسمِ شيء حلالٍ، فإنَّ هذا التغييرَ لا يُغيِّرُ من الشّريعة الحكيمة شيئاً، ويظلُّ الحرامُ حراماً. مثل من سمَّى الخمرَ لبناً، وقال: "هذا عندي لبنٌ، وما شربتُ إلا لبناً". وهذه هي حقيقة مسألة أولئك، سمَّوا "المُشركَ" بغيرِ اسمه الشرعيِّ، وأحدثُوا لهُ أحكاماً، ليقُولوا لا دليلَ على أنَّ تكفيرَ "المُشرك المُنتسب" من أصل الدّين!!. ولو أنصفُوا لقالوا: كُلُّ المشركين كانُوا مُنتسبين إلى ملَّة الأنبياء إلاّ الملاحدة والدّهريّين . فمشركُوا العرب كانُوا يقُولون: نحنُ على ملّة إبراهيم. وأهلُ الكتاب كانُوا يقولون: نحنُ على ملّة إبراهيم، وموسى وعيسى. وغالبُ أهلِ الردَّة كانُوا يقولون: نحنُ على ملّة محمّد عليه الصّلاةُ والسّلام. قال ابن زيد: "واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديّا، وقالت النّصارى كان نصرانيّا، فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفا مسلما، وما كان من المشركين الّذين يدّعونه من أهل الشرك". (الطّبري)