(رابعاً) حُكمُ التَّحاكم إلى الطاغُوت: 1) التحاكم: هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النزاع القائم بين النَّاس بحُكمه. والتحاكم إلى الطاغُوت:هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه(1). ------------ (1) اعترض البعض تعريف الكاتب للتحاكم واتّهم بأنه يشترط الإستحلال القلبيّ للحكم على فاعل الكفر وردًا على ذلك قال: (أولا) صاحبُ الاعتراض لا يدري أنَّ الأفعال تدلُّ على الرضى، وأنَّ من شرب الخمر مُختارا فقد رضي بالشرب، وقس على ذلك. ولذا فإنَّ من تحاكم إلى الطاغُوت فقد رضي بالتحاكم. فعلى ذلك فمن عرَّف التحاكم إلى الطاغُوت بأنّهُ: "إسناد فصل القضاء إليه"، ومن عرَّفهُ بأنَّهُ: "الرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه" فلا اختلاف بينهما لأنَّ الرضى يكُونُ قولا كما يكُونُ فعلاً. وقد قال اللهُ تعالى عن المُتخلِّفين عن الجهاد: "رضُوا بأن يكُونُوا مع الخوالف" أي: مع النساء. ومعلُومٌ أنَّهم لم يكُونُوا يقُولُون بأفواههم: "نُريدُ أن نكُون مع النساء" ولكنّ أفعالهم دلَّت على ذلك. فمن قال عن المُتحاكم إلى الطاغُوت إنَّهُ رضي بالتحاكم فقد صدق. وعلماءُ الإسلام يُقرِّرون أنَّ الأفعال دالَّةٌ على الرضى لعلمهم بالقُرآن: قال ابنُ الجوزي في "أخبار الحمقى": "ومن أعجب التغفيل‏:‏ أن الرافضة يعلمون إقرار علي على بيعة أبي بكر وعمر واستيلاده الحنفية من سبي أبي بكر وتزويجه أم كلثوم ابنته من عمر وكل ذلك دليل على رضاه ببيعتهما ثم فيهم من يكفرهما وفيهم من يسبهما" وقال ابنُ القيم في مدارج السالكين: (فأما الندم فإنه لا تتحقق التوبة إلا به إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه وفي المسند: "الندمُ توبةٌ"). وقال ابنُ قُدامة في "المغني": (لأن أدلة الرضى تقوم مقام النطق به ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لبريرة: "إن وطئك زوجك فلا خيار لك" جعل تمكينها دليلاً على إسقاط حقها والمطالبة بالمهر والنفقة، والتمكين من الوطء دليل على الرضى، لأن ذلك من خصائص العقد الصحيح فوجوده من المرأة دليل رضاها به). وقال السرخسي في المبسوط: ("وإذا قبَّل جارية بشهوة ونظر إلى فرجها بشهوة فهو رضا" لأن هذا الفعل لا يحل إلا في المِلك، فإقدامه عليه دليل الرضى، فتقرر ملكه فيها بمنْزلة الغشيان). وقال: (وإذا اغتصب العبد من رجل متاعاً فباعه ومولاه ينظر إليه فلم ينهه عنه فهذا إذن له في التجارة لوجود دليل الرضى منه بتصرفه حين سكت عن النهي). (ثالثا) لا يُفطنُ إلى الفرق الَّذي بين (الرضى بالفعل) وبين (الإستحلال القلبي ) فإنّ من النَّاس مَن يرضى بفعلُ الكبيرة وهو يعتقدُ تحريمها. فيصحُّ القولُ بأنَّهُ قد رضي بفعل الكبيرة، لكونه فعلها مُختاراً من غير إكراه. 2) والتحاكُم إلى الطاغُوت كُفرٌ يزولُ به الإيمان والتَّوحيد، لأنَّ الحُكم والأمر لله، ومن أفرد ذلك لله وانقاد لأوامره وأحكامه فهُو المُسلمُ المُوحِّد، الَّذي على دين الله القيّم، ومن قدَّم حكم غير الله على حُكم الله فقد أشرك في عبادة الله. قال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40) وقال: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (الأنعام:57) وقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44) وقال: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65). 3) ويكفرُ المرء المُسلم بمجرَّد إرادة التَّحاكم إلى الطاغُوت، ويصيرُ إيمانُهُ زعماً لا حقيقة له. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء:60) ومن أراد وتحاكم بالفعل أولى بالذَّمِّ والتكفير ممن أراد ولم يفعل. 4) ولا يُشترطُ للمُتحاكم اعتقادُ أنَّ شريعةَ الطاغُوت أفضلُ من شريعة الله أو أنَّها واجبة الاتِّباع، بل يصيرُ مُتحاكماً بفعل التَّحاكُم، ويكفُر بمجرَّد الإرادة، ولو لم يقصُد أن يكفُرَ. قال الإمام ابن تيمية في الصَّارم المسلُول: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفَرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً؛ إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله" (اهـ). وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى:﴿فَإِن تَنَـٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾: قال:"أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم "إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر" 5) ومن كان في الظاهر مُسلماً، فظهرت إرادتُهُ للتحاكم إلى الطاغُوت، صار مُنافقًا إذا كان يُبدي الرجُوع، ويعتذرُ باعتذارات كحُسن القصد. أمَّا المُصرُّ المُتمادي فهو يرتدُّ بذلك: قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ (النساء:62ـ63).