(ثالثا) الطواغيت البشرية الحاكمة: إنّ من الأمور الفطرية المعلومة لدى جميع الأمم على اختلاف الأديان والعقائد حُسن العدلِ والإنصاف وقبحُ الجور والظلم. وكل إنسانٍ إذا قصده من يريد إزهاق نفسه يعلم أنّه ظالم يعتدي عليه بدون حقٍّ، ويعلم كذلك: أنّه إن دافع عن نفسه وقتل الظالم قبل أن يقتله أنّه مصيبٌ وعلى صراطٍ مستقيم . ويعلم كذلك: كما أنّه لا يرضى لنفسه أن تُزهق ظلماً فكذلك كلّ إنسانٍ لا يريد لنفسه ذلك، وأنَّ من أراد قتل إنسانٍ بريءٍ بدون حقّ ظالمٌ معتدٍ يستحقّ العقوبة. ويعلم الإنسان كذلك -على أيّ دين كان- أنّ من قصده لأخذ ماله بالقوّة ظالِمٌ له معتدٍ، وأنّ الدفاع عن المال لا بُدّ منه إذا كان قادراً على ذلك. ويعلم كذلك: كما أنّه لا يرضى لنفسه السلبَ فإنّ كلّ إنسان لا يرضى لنفسه ذلك، وأنّ من اعتاد سلب الناس وأخذ أموالهم بالقوّة ظالم يستحقّ العقوبة. ويعلم الإنسان كذلك -على أيّ دين كان- أن من قصد أخته أو ابنته ليفجر بها أنّه ظالم معتدٍ، وأنّ الدفاع عن النسوة الأقارب لا بُدّ منه إذا كان قادراً على الدفاع. ويعلم كذلك: أنّ من اعتاد الغصب والفجور في المجتمع ظالم يستحقّ العقوبة. فمحبّة العدل وإعطاء كل ذي حقٍّ حقّه أمرٌ فطريٌّ يُدركه الإنسان من حال نفسه، وكذلك بغض الظلم والجور قبل الرسالات السماوية وبعدها. فالأمم الجاهلية لم تكن جاهلة بأنّ العدل حسن وأنّ حفظ النفوس والأموال والأنساب والأعراض من حقوق الإنسان التي يجب الاعتناء بِها، وكذلك لم تكن جاهلة بأنّ الظلم قبيح وأنّ الاعتداء على النفوس والأموال والأنساب والأعراض جريمةٌ تستحقّ المقاومة. ويعلم الأفراد والجماعات -على أيّ دين كانوا- من الحياة الواقعيّة أنّه إذا انتشر الظلم والقتل والغصب والسلب فإنّ الحياة تؤذّن ببوارٍ، وأنّ الأمن والاستقرار ينتهي .. ومن أجل هذا العلم ظهر الاعتناء بالقيم والشرائع التي على أساسها يُعرف الظالم المجرم ويُعرف ما يستحقّه من عقوبة في حياة الناس. ومن كان مؤمناً برسالة الله فإن الرسالة تكفيه عن وضع القيم والشرائع للحياة وما عليه إلاّ أن يتّبع تنْزيل العليم الخبير. ومن كان لا يؤمن بالرسالات أو يؤمن بِها ولكن لم تبلغه إلاّ محرّفةً ناقصةً لا تفي بحاجات الإنسان يضطرّ إلى وضع القيم والشرائع وهو يعتمد على عقول الرجال وتجاربهم.فكما أنّ كلّ إنسان يريد "الطعام" و"الشراب" و"المسكن" و"النكاح" وهم مع ذلك على قسمين: قسمٌ يطيع الله تعالى في طريقة نيل هذه المطالب. وقسم يكفُر بالله ويعصيه في طريقة نيل مطالبه. فكذلك كلّ البشر يريدون القيم والشرائع التي تحقّق العدلَ وتؤدي الحقوق إلى أهلها، ولكنّهم ينقسمون إلى قسمين: قسم يطيع الله في القيم والشرائع وقسم يتمرّد على الله ويريد أن يضع القيم والشرائع من عند نفسه متجاهلاً أو جاهلاً بأنّه بفعله ذلك ينصبُ نفسهُ إلهاً، ويطلب حقوق الله التي لا يجوز أن يطلبها العبد الفاني الفقير إلى ربِّه. فإذا عرفتَ أن كلّ من أنكر اتّباع شريعة الله كافرٌ بالله، وكلّ مجتمع لا ينقاد للقيم الإسلامية وشرائعه مجتمعٌ جاهليٌّ، فاعلم أنّ المجتمعات الجاهلية على درجاتٍ من ناحية التزام واتّباع قيمها وشرائعها الجاهلية: