(الخطأ الثاني) اعتبار ما لم يعتبرهُ الشرع: من أوليات الحقائق الدينية الَّتي يُعلِّمُنا الإسلام أن نعلم:"أنَّ في هذا العالم شريعةً واحدةً هي شريعةُ الله وما عداها فهُو الهوى" قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية:18) وقال:﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:29-30) والإنسانُ إذا لم يتَّخذ كتاب الله هادياً، فكُلُّ الأوامر والنَّواهي الَّتي يُشرِّعُها، ويضعُها لتنظيم حياته لا تكُونُ إلا صُورة من صُور "الهوى". فإن صاغُوها على شكل منظُومة شعرية، أو على شكل مواد قانُونيّة ثابتة، أو تركُوها غير مُدوَّنة وتُؤخذُ من أفواه الطواغيت شفويّاً، فكلُّ ذلك سواءٌ ولا تخرجُ عن كونها من "هوى البشر". وعندما نتكلَّمُ عن أبواب التَّحاكم، يجبُ أن نضعَ كلَّ صُور "الهوى" في كفة، وشريعة الله في كفة، وأن لا تجتذبُنا النظرةُ الجاهليَّة إلى التَّحاكم، و بريقُ المحاكم العصرية والقوانين العصرية، فنظنُّ أنَّها شيءٌ جديدٌ مُخالفٌ للأهواء القديمة، ويحتاجُ منَّا إلى اجتهادات وأحكام جديدة، بينما هي في الحقيقة لا تعدُوا أن تكُون صُورة من صُور "الهوى" الَّذي ذكرهُ اللهُ في كتابه مُنذُ زمن بعيد. وقد لاحظتُ في أفكارِ بعض الَّذين أخطأوا في فهم جوانب من قضية التَّحاكم، تضخيمهم السُلطان الجاهلي، وتأثُّرهم بعُرف البيئة ونظرتها الجاهلية إلى أمُور التحاكم من حيث لا يشعُرون، وأنَّهُم يضعُون شرائع الجاهلية ومحاكمها موضعا خاصّا من نفُوسهم ،فوق منزلتها الحقيقية، كأنَّها ذات سُلطان من الله، ويجعلُون لها أحكاماً خاصّة بها. إنَّ هناك لفرقاً كبيراً بين القضاء الإسلامي والقضاء الجاهلي، فالأولُ من أمر الله، ويستمدُّ سُلطانهُ وشرعيَّتهُ من الله. ويجبُ على المُسلم الإنقيادُ لما يقضي به القاضي المُسلم لقطع النّزاعات والخُصُومات. وذلك إذا لم يُخالف نصّاً مُحكماً لا اختلاف في مدلُوله، أو إجماعاً. وهُو مُجتهدٌ يُخطئُ و يُصيب، ومأجُورٌ في الحالتين. ومن حُكم له شيءٌ يعلمُ أنَّهُ لا يستحقُّهُ، لايحلُّ لهُ أخذُهُ بحُجَّة أنَّ القاضيَ حكم لهُ. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيتُ له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها" ولذلك قال كثيرٌ من السَّلف: "لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم" والقضاءُ الجاهليُ ليس كالقضاء الإسلامي، ولا يُقاسُ عليه، لأنَّ القضاء الجاهلي اعتداءٌ وطُغيان ولا يقُومُ على إذن وسُلطان من اللهِ. وليس للقاضي الجاهليّ شرعيَّةٌ تُوجبُ تصحيحَ ما يقضي به بين النَّاس لقطع النّزاعات والخُصُومات. فهُو والرجلُ العادي الَّذي لا أتباع لهُ ولا جُنُود سواءٌ في باب التَّحاكم، ولا يكُونُ قضاءُ أحدٍ منهما نافذاً في ميزان الشرع. فإذا تنازع -مثلا- مُسلمٌ ومُشركٌ في شيء، فذهب المُشركُ إلى رجُلٍ على دينهِ من العامّة، وقال لهُ: بينى وبين فُلان نزاعٌ، وأنا راضٍ بحُكمك، فادعُهُ لتفصل ما بيني وبينهُ. فاتَّصل هذا بالمُسلم ، وقال:"جاءني فُلانٌ متحاكماً إليّ، وأريدُ أن أحكُم بينكُما، فتعال إلى منزلي يوم كذا وكذا". فإن ذهبَ المُسلمُ إليه, وهُو يُريدُ أن يُخبرهُ بأنَّهُ لا يصلُحُ أن يكُون حكماً في هذه القضيّة، لأنَّ أحد طرفي النّزاع لا يتحاكمُ إلا إلى الشريعة الإسلامية. فهل يصيرُ المُسلمُ بالذهاب إلى منزله كافراً؟. وهل يكفُرُ بمُجرَّد الكلام؟. وهل دُخُولُ منْزله دخُولٌ في مجلس عباده؟. لا أظُنُّ أنَّ عاقلاً شمَّ رائحة العلم يقُولُ أنَّهُ يكفُرُ بالذهاب أو بالدُخُولِ أو بالكلام. ثُمَّ إذا قال بعد سماعه لقول المُسلمِ وعلمهِ بأنَّهُ لا يرضى بحُكمه: "ارض أو لا ترضَ فقد حكمتُ في القضية وهي عليك لا لك". فإذا انصرف المُسلمُ من هذا المجلس، بعد أن ردَّ على الطاغُوت الصغير، ولم يَبدُ منهُ ما يدلُّ على الرضى بحُكمه، فهل يحلُّ لنا أن نقُولَ: "لقد كفرَ المُسلمُ بحُضُورهِ في مجلس قضاء جاهلي!! " أو نقُولَ: "كفرَ بوقُوع حُكمِ الطاغُوت عليه!!". لا أظُنُّ أنَّ عاقلاً يقُولُ بذلك. وذلك أنّ شريعة الله تعتبرُ النِّيَّة في التحاكم، وقد علمنا رفضَهُ للتحاكم إلى الرجل، وعدم قبوله لشرعه، فشهدنا لهُ بصحة موقفه ، واستقامته على الحقِّ. والرجلُ المُريد لأن يحكُم ليس لهُ من الله حجَّة وسُلطان ،فهو يُريدُ أن يتصرَّف فيما ليس له فيه حقٌّ، فصار ظالماً مُفسداً، واللهُ لا يُصلحُ عمل المُفسدين. ولذلك فإنَّ نيَّة المُسلم مُقدَّمةٌ وغالبةٌ على نيَّة القاضي المُدَّعي الكاذب. فليس المجلسُ في حقِّ المُسلمِ مجلسُ حُكمٍ وعبادة، وبالتالي لا يضرُّهُ وجُودُهُ فيه. وإذاً فالسُؤالُ الهامُّ المطروحُ هُو: ما الَّذي جعل كلامَ الرجُلِ لغواً مع رضى أحد الخصمين بحُكمه؟. والجوابُ الصحيح هُو: قد صار كلامُ الرجُلِ لغواً, لأنَّهُ ليس قاضياً مُسلماً يستمدُّ السُلطان من دين الله، وليس رجُلاً مُسلماً رضي بحُكمه الطرفان المُتخاصمان, ويستمدُّ سُلطانهُ من رضاهما، ومن إذن الشريعة في الفصل بينهما. وإذا كان ذلك كذلك، فهل تتغيَّرُ الأحكامُ إذا جاء الرجُلُ بجُنُود،وقد سُمِّي بالقاضي، ودعا المُسلمَ ليفصل بينهُ وبين خصمة في القضية السَّابقة. وهل يكفُرُ المُسلمُ بالذهاب وهو على نيَّته السَّابقة؟. وهل يتحوَّلُ مجلسُ الرجُل إلى مجلس عبادة يكفُرُ كُلُّ من دخله، لأجل جُنُوده؟. وهل قولُ الرجُل: "قد انتهت القضيّة وحكمتُ بينكما بكذا وكذا".. يضرُّ بالمُسلم إذا انصرف وهو لم يقبل منه حُكماً؟. أقُولُ: إنَّ الطاغُوت الصغير الّذي لا جُنُود لهُ، ويُريدُ أن يحكمَ بين خصمين بغير ما أنزل اللهُ، والطاغُوت الكبير ذا الجنُود والأعوان سواءٌ في باب التحاكم. وأحكامُ الإثنين من اللغو والباطل، لأنَّهما لا يستمدَّان السُّلطان والشرعيَّة من دين الله. فلا ينفسخُ بقولهما نكاحٌ، ولا تنتقلُ ملكية شيء من يد إلى أخرى بقولهما, لكُفرهما واتِّباعهما للهوى ،وما لم ينزل به اللهُ من سُلطان. ولا يجُوزُ أن نقُولَ في كلا الرجُلين إنَّ نيَّتهُما غالبةٌ على نيَّةِ المُسلمِ، وأنَّهُ إذا قال الكافرُ: "سأحكمُ بينكُما"، وقال المُسلمُ:"لا أرضى بحُكمك" لا يجُوزُ أن نقُولَ:"القولُ قولُ الكافر، والمجلسُ مجلسُ قضاء وعبادة، وقد كفر المُسلمُ بالحُضُور، ولا وزنَ لنيَّته وقولهِ" من قال بذلك فقد اعتبر ما لم يعتبرهُ الشرعُ، وأنزلَ القاضي الجاهلي الكافر منْزلة أعلى من منْزلته في ميزان الشرع، وقدَّم نيَّةَ الكافر المُتمرِّد على الله على نيَّة المُؤمن الكريم. وقدَّم قولَ مردودِ الشَّهادة على قول مقبُول الشَّهادة، وهذا من أردإ المذاهب وأفسدها. وقد أوقع أصحابَ هذا القول في ذلك انبهارُهم بالواقع الجاهلي، واعتبارُهم لعُرف البيئة الجاهلية, الَّتي تُقدِّسُ المحكمة وشريعتها الوضعية، وتجعلُ أحكامَ قاضي المحكمة نافذةً طوعاً وكرهاً ،ففقدوا توازنهم، فأصَّلُوا أُصُولا لا يُقرُّهُ عقلٌ ولا نقلٌ. إنَّ فُقهاءَ الإسلامِ عندما يجعلُون "العُرفَ" مرجعاً لمعرفة بعض الأحكام، فهم إنَّما يقصدون عُرف المُجتمع المُسلم العامل بشريعة الله لا الكافر. بل إنَّ العُرف الجاهليَّ من الأرباب المعنوية المُزيَّفة، الّتي يجبُ الكُفرُ بها. والطاغُوتُ ذو الجُنُود وغيرُهُ إنسانٌ يجُوزُ الذهابُ إليه لأسباب كثيرة، وإنَّما يكفُرُ من تحاكم إليه، وهو من أظهر رضاهُ بذلك بالقول أو الفعل. وليس كلُّ ما تقُولُه الجاهليةُ إنَّهُ تحاكم، يُلحقُ بالتحاكم الَّذي ذكرهُ القُرآن وكفَّر من فعله. لأنَّ للتَّحاكم الشرعيِّ تعريفٌ جامعٌ مانعٌ لايتقلَّبُ ولا يضطرب. وخُلاصة القول: أنَّ من قال:"مجلسُ التَّحاكم عند الطاغُوت لهُ أركانٌ ثلاثة:الحاكم والمُدَّعي والمُدَّعى عليه فمن صار أحد هذه الأركان فقد كفر، ومن أُكرهَ على الحُضُورِ فتكلَّم صار كافراً". فهو مُخطِئٌ يظهرُ خطؤهُ من وجُوه: (الأول) ليس الدخولُ على الطاغُوت كُفراً في ديننا، وليس الكلامُ عنده كُفراً كذلك، وإنَّما الكُفرُ التَّحاكم إليه، وقد بيَّنَّا تعريف التَّحاكم، وأنَّهُ إسنادُ القضاء إليه، والرضى بقطع النّزاع بحُكمه. فمن لم يكُن على ذلك، لا يكُونُ مُتحاكماً بقول الحقِّ وشُهُود المجلس. ولو كان قولُ الحقِّ وشُهُود المجلس كُفراً مُستقلا، لبيَّنها الكتابُ والسنَّةُ، وما وُكل ذلك إلى آراء الرجال القابلة للخطأ والصواب. والواجبُ على المُؤمن المُخلص أن لا يُجاوز الحدَّ، ولا يخترع ديناً ما أنزل اللهُ به من سُلطان. (الثَّاني) إذا اضطرَّ المُسلمُ الى إجابة دعوة الطاغُوت ، وحضر مجلسهُ، وهو لا يُريدُ ولا ينوي التَّحاكُم إليه، فليست نيَّةُ الطاغُوت وقولُهُ مُقدَّمةً على نيَّةِ المُسلمِ وقوله. وليست أوامرهُ مُلزمةً على المُسلم، بل هي لغوٌ وباطلٌ، وما يُنفذُهُ بسُلطانه فهو جورٌ يستحقُّ به عقاب الله. وإذا دعا أحدُ الطواغيت مسلماً، وأخبره بأنّه مُدّعى عليه بحقوق أخذها من أهلها، فتكلّم المسلم وزيّف الدعوى وبيَّن بُطلانها، فإنّه يُعتبر في ميزان الشرع قائلاً بالحقّ، والله لا يعذّب أحداً بقول الحقّ. فالقولُ بأنَّ: "من حضر مجلس الطاغُوت وتكلَّم صار كافراً" لا يجُوز أخذُهُ -كحُكمٍ دينيٍّ- إلاّ بحُجَّة واضحة من الكتاب أو السُّنَّة. والطاغوتُ بعد سماعه لكلام المُسلم قد يقول: "أنا ملكُ البلاد وقد عرفتُ أنّك بريءٌ فاذهب لوجهك"، كما فعل النَّجاشي. أو يقول: "نحنُ نحبسك ".كما قالُوا ليُوسف عليه السَّلام. وقد يقول الطاغوت إذا كان قاضياً -نائب الملك- ولم يكن الملك: "حكمتْ المحكمةُ بأنّك بريءٌ". أو "حكمتْ المحكمةُ بأنّك ظالمٌ مُجرمٌ". ولا فرق عند المسلمِ بين قول الطاغوت الملك وبين قولِ الطاغوت القاضي، لأنّ كليهما يقُولُ لغواً، ويتصرّف بسلطانٍ لم يأذن به الله، ويصدر أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، والأحكام الشفوية الباطلة كالأحكام المدوّنة الباطلة. فإن قيل: "قد تغيّر الحال في هذا العصر، والعُرف السائد فيه هو أنّ من ذهب إلى المحكمة بعد دعوة القاضي فهو متحاكم". أقُولُ: "إنّ العُرف الجاهلي لا ينسخ شريعة الله ولا يجعل الحلال حراماً، فإذا كان الذهاب إلى الطاغوت بعد دعوته جائزاً في شريعة الله ما لم يكن في نية الذاهب تحاكمٌ ورضىً بفصل القضاء الصادر منه، فإنّ تغيّر العُرف وآراء الناس لا ينسخ الإباحة إلى التحريم". (الثالث) ولو كان من ابتُلي باتِّهام الطاغُوت وادُّعي عليه بالباطل يجبُ عليه السُكوت، لسكت يُوسُف عليه السَّلام، ولما قال لمّا ادَّعت عليه امرأةُ العزيز: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: 26] وقد سجنهُ حُكام البلد ـ الطواغيت ـ مع معرفتهم ببراءته ، وكان للقضيّة ثلاثة أركان: طاغُوت حاكمٌ ومُدَّعي ومُدَّعىً عليه، فلم يكفُر المُدَّعى عليه لأنَّهُ لم يكُن مُتحاكماً ،بل كان يُبرِّئُ نفسهُ من التُّهمة. وقد كان بين الصَّحابة وبين المُشركين خُصُومةٌ في الدِّين فذهبُوا إلى النَّجاشي وذكروا الصَّحابة بالسُّوءـ وكان يرى أنَّهُ صاحبُ الحقِّ في الفصل بين النَّاس ـ فدعا الصَّحابة، فجاؤا إليه، وقد كانُوا على علمٍ بسبب الدعوة. فلما استمع إلى حجج الفريقين، نصر الصحابة، وأصدر قرارهُ، وقال لهم ما معناهُ: "اذهبُوا حيث شئتم فأنتُم آمنُون". وقد كان للقضيّة ثلاثة أركان: حاكمٌ غير مُسلمٍ ومُدَّعي ومُدَّعىً عليه ـ وهم الصَّحابة ـ ولم يكفُر الصحابة لأنَّهم لم يكُونوا مُتحاكمين ،بل كان يتكلَّمُ خطيبُهم لإظهار الحقِّ وإبطال الباطل. وعلى هذا إذا قالُوا للمُسلم: أنت متّهم "بالسرقة" أو "بالقتل" أو "بالظلم" أو "بذنب آخر"، فعليه أن يقول الحقّ، ويقول: أنا بريء من هذه التّهمة، ولستُ بسارقٍ أو قاتلٍ أو ظالمٍ .. إلخ. كما قال يوسف عليه السلام، وكما قال جعفر رضي الله عنه. وتبرئة النفس من التّهم الباطلة من الدِّين، وقد فعلها رسل الله أمام المتبوعين بالباطل، أي أمام الطواغيت، ولا حرج على المسلم إذا برّأ ذلك من نفسه. والقول بأنّ هذه التبرئة تصحّ أمام الرئيس والوزير وسيّد القبيلة، ولا تصحّ أمام القاضي الكافر، فهو تفصيل لم يقم عليه دليلٌ ثابت من الكتاب والسنّة، ولا يدلّ عليه كذلك العقل الصريح، لأنّ القاضي الكافر ليس أعظم طغياناً من الذي جعله "قاضياً" وولاّه الوظيفة. (الرابع) جاء في السِّيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابَه بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: "إنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ النَّاسُ بِبلاَدِه ، فَتَحَرَّزُوا عِنْدَه حَتَّى يَأتيكُم اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْه" فظاهرٌ من الخبر جواز الاستفادة من عدل المُلُوك الَّذين يكرهُون الظُّلمَ. وهو ردٌّ على من يظنُّ أنَّ من جيء إلى مجلس حُكمه فتكلَّم بالحقِّ يكفُر. وإذا كان الملكُ الكافرُ لا يُستعانُ به في استرداد الحقِّ، وكان المُدَّعى عليه إذا دعاهُ الملكُ لا يجُوزُ لهُ أن يقُول الحقَّ أمامه، لكان الملكُ العادل كالظالم ولم يكُن للذّهاب إلى النَّجاشي معنى.