(الخطأ الثَّالث) التفريق بين الطواغيت في التَّحاكم وفي استرداد الحُقوق: هناك من لا يرى "التحاكم إلى الطاغوت" أصلاً، وهو المطلوب من كل مسلم ولكنّه يقول: "لا يجوز الذهاب لاسترداد الحقّ إلى من نصب نفسه لفضّ النّزاع وينتظر التحاكم، ولكن يجوز الذهاب إلى رجلٍ كافرٍ له سلطةٌ ووجاهةٌ لاسترداد الحقّ". وحجّته أنّ الأول طاغوت وأن الثاني ليس بطاغوت. جاء في رسالة "ميراث الأنبياء": "ومن هُنا لابدَّ أن نُفرِّق بين من يذهبُ إلى أصحاب الوجاهة وأصحاب السُّلطة الَّذين ليسُوا بطواغيت فيستعينُ بهم على ردِّ مظلمته أو يطلُبُ منهم الحماية ، وبين من يذهبُ هُو وخصمُهُ إلى القُضاة الطواغيت الَّذين نصبُوا أنفُسهم معبُودين في الأرض يحكمون النَّاس بأحكام الطواغيت فيتحاكمُ إليهم ويفضُّ النّزاع عندهم"(اهـ) أقُولُ: (أولا) لا شكَّ أنَّ من يذهبُ هُو وخصمُهُ إلى القُضاة الطواغيت فيتحاكمُ إليهم ويفضُّ النّزاع عندهم أنَّهُ يكفُرُ بذلك. ولكن هذا التفريق الَّذي يجعلُ بعض أصحاب السُّلطة ممن تجُوزُ الاستعانة بهم في ردِّ المظالم ويجعلُ بعضهُم ممن لا تجُوزُ الاستعانة بهم في ذلك.. ليس بصحيح، لأمُور: (1) إنّ الرجل الكافر الذي له سلطة ووجاهة لا شكّ أنّه رجل متبوع، وكل متبوع بالباطل فهو طاغوت في اصطلاح الشرع. ولو كان رجلاً فرداً لا يتّبعه أحدٌ ما جاء إليه أحدٌ لردّ الحقوق. قال الإمام ابن تيمية: "والمطاع في معصية الله، والمطاع في إتباع غير الهدى ودين الحق ـ سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله، أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمي الله فرعون وعاداً طغاة" (الفتاوى:28\190) (2) إنّ "كعب بن الأشرف" الذي هو سبب نزول الآية لم يكن رجلاً له جنود وسجون ومبنى محكمة، وإنّما كان سيداً عادياً من سادات اليهود المتبوعين. (3) لم يكن في المجتمع العربي في ذلك الزمان نظامٌ وشريعةٌ تُحدِّدُ الذي يستحقّ أن يُتحاكم إليه، بل كان ذلك حقّاً للخصوم، فإن شاؤا ذهبوا إلى سيّد قبيلة أو كاهن أو سادن أو ساحر أو ملك من الملوك، بخلاف المسلمين فإنّهم لم يكونوا يرجعون إلاّ إلى الكتاب والسنَّة. والقصة المروية في سبب نزول آيات النساء تدلُّ على أنّ الخصمين اختلفا في الجهة التي يتحاكمون إليها، فقال اليهوديُّ: نتحاكم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- لعلمه بأنّه يقضي بالحقّ ولا يأخذ الرشوة. وقال المنافق: إلى "كعب بن الأشرف" لعلمه بأنّه يأخذ الرشوة. (4) ليس معنى الآية تحريم التحاكم إلى الطاغوت، وإباحته إلى غيره، لم يقُل ذلك أحدٌ من مُفسِّري الآية، بل المراد تحريم التحاكم إلى غير الكتاب والسنّة سواء كان الذي يُطلبُ منه فصل القضية وإنهاء الخصومة بإصدار الحكم رجلاً معروفاً بهذه الوظيفة، أو كان سيّداً له وجاهة، قد يحكم أحياناً بين الخصوم، أو كان رجلاً لم يحكم بين خصمين قط قبل الحادثة الواقعة الراهنة، فكل من يتصدّى للحكم بين الناس بغير ما أنزل الله فهو الطاغوت المذكور في القرآن، ولا عبرة بالزمن الذي مارس فيه هذه الوظيفة، فالسنة والشهرُ واليوم سواء. (ثانيا) كان الطواغيت الجبابرة وملُوك الأمم القديمة يتصرَّفُون في شُئون النَّاس، ويفصلُون بينهم، ولم يَكُن أمراً مُستغرباً في المُجتمع أن يقُومَ الحاكمُ بثلاثة وظائف بنفسه وهي: 1) النّظرُ في الشكاوي، وإحضار من ادُّعيَ عليه، وقبض الهارب. 2) الفصلُ في القضايا، وإصدار الأحكام، وبيان العُقُوبات. 3) التنفيذ وانزال العُقُوبات على المُستحقِّين في رأيه. ثُمَّ دلَّت الأدلَّةُ على جواز الإستعانة بالمُلُوك وذوي الوجاهة من المتبُوعين ـ مع طُغيانهم ـ في استرداد الحقُوق وتبرئة النَّفس من التُّهم. واستردادُ الحُقُوق لا تنحصرُ في الأموال، بل تشملُ الأعراض، والأمن ،والإقامة ،والعمل في الأسواق وغير ذلك. فمن خاف في البلد الَّذي وُلد فيه، فطلب جوار رجُلٍ متبُوع، فإنَّهُ يُريدُ استعادة حقِّه من الأمنِ. ومن تلك الأدلّة: (1) ما ورد في قصَّة يُوسف عليه السَّلام من قوله لعزيز مصر لتبرئة نفسه من التُّهمة: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾ [يوسف: 26] قال ابنُ كثير: "فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها ﴿مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا﴾ أي فاحشة ﴿إِلا أَن يُسْجَنَ﴾ أي يُحبس ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: يُضرب ضرباً شديداً موجعاً. فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، و"قَالَ" باراً صادقاً :﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي﴾. وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه. (2) وقوله: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ قال الإمامُ الطبري: وقوله: ﴿فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ﴾ يقول: فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك، ﴿قالَ ارْجِعْ إلـى رَبِّكَ﴾ يقول: قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك ﴿فاسألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾. وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء، فقال للرسول: سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطَّعن أيدَيهن، والمرأة التي سُجِنتُ بسببها قال ابن عباس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة، يقول: هذا الذي راود امرأته (الطبري) قال ابن كثير: فقال: ﴿ٱئْتُونِى بِهِ﴾. أي: "أخرجوه من السجن وأحضروه"، فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه، بل كان ظلماً وعدواناً، فقال:﴿ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾ الآية. وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره، صلوات الله وسلامه عليه، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:"نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ﴿رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ﴾ الآية، ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي. (اهـ) قُلتُ: وقولُهُ صلى الله عليه وسلّم: "لأجبت الداعي "نصٌّ في جواز إجابة دعوة الملك الكافر. (3) ذكر القُرآنُ أنَّ إخوة يوسف برَّأُوا أنفُسهم من تُهمة السرقة، وقالُوا: ﴿تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَـارِقِينَ﴾ وكانُوا يرون يُوسُف أنَّهُ من الأسرة الحاكمة الكافرة . قال الإمام ابن تيمية: "ولهذا كان إخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع كقولهم: ﴿قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴿ [يوسف: 73]. (4) وموسى عليه السلام لما عابه فرعون بقتله النفس قائلاً: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الشعراء: 19]. أجاب: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 20-21] (5) ما ورد في السيرة من طلب النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم جوار سهيل بن عمرو والأخنس بن شريق والمُطعم بن عدي ،فأجارهُ الأخيرُ وقال في الملأ من قُريش: "ألا إنِّي قد أجرتُ مُحمَّداً فلا يُهجهُ أحد". وكان سببُ طلب الجوار في مسقط رأسه، هو الخوف من أذى سُفهاء قُريش. (6) إذنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم لأصحابه أن يدخلُوا جوار النَّجاشي مللك الحبشة، وكانُوا نصارى. وقال: "إنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ النَّاسُ بِبلاَدِه ، فَتَحَرَّزُوا عِنْدَه حَتَّى يَأتيكُم اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْه" والمُلوك والرؤساء الطواغيت في هذا الزمن لا يزالُون يتولون من الأعمال ما كان يتولَّاهُ أمثالهم من المُلوك، إلَّا إنَّهم تطوَّرُوا في التنظيم وتوزيع الوظائف. فـ"البوليس": هم عينُ الطاغُوت السَّاهرة لحراسة الأمن. وهم يقبضُون من يُرادُ قبضُهُ، ممن اتُّهِم في جريمة أو ذنب. ثُمَّ يُحيلُونهُ إلى المحكمة. و"المحكمة" هي مؤسَّسة قضائية للطاغُوت، للتحقيق وتمييز المُذنب من البريء في شريعة الطاغُوت. فتقُولُ:"هذا مُذنبٌ بنصِّ مادَّةِ كذا وكذا، وعُقُوبتُهُ كذا وكذا بنصِّ مادَّة كذا وكذا". أو تقُولُ:"هذا بريء، يجبُ الإفراجُ عنهُ في شريعة البلد". و"قُواتُ التهذيب" هم سيفُ الطاغُوت وسوطه، فيُنفِّذون ما قرَّرتهُ المحكمةُ، فيقتُلُون المحكوم عليه بالإعدام، ويحرسُون المحكُوم عليه بالسِّجن مُدَّة سجنه. فترى أنَّ وظيفة الطاغُوت القديمة في الأمُور الداخلية، الَّتي هي القبضُ والمُحاكمةُ والتنفيذُ لم تتغيَّر، وإنَّما تغيَّر مُجرَّد طريقة تنظيم وتوزيع الأعمال. فما كان يقُومُ به رجلٌ واحدٌ في القديم، تقُومُ به في هذا الزمن مُؤسَّسات مُتعدِّدة. وكُلُّها على تفرُّقها تُشغلُ وظيفةً واحدةً هي:"وظيفةُ الطاغُوت". وإذا ثبت أنَّ التحاكم إلى الطاغُوت كان مُحرَّما في زمن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلّم، وكانت الإستعانةُ به في استرداد الحُقُوق مُباحةً، فلا شكَّ في أنَّ التحاكم إليه في هذا الزمن مُحرَّمٌ، والإستعانةُ به في استرداد الحُقُوق مُباحةٌ. وعلى ذلك فمن تحاكم إلى ضابط البوليس، أو قاضي المحكمة، أو ضابط قُوات التهذيب، أو غيرهم من أصحاب السُّلطة، أوغيرهم من العامّة، فقد كفر. وفي الجانب الآخر، من استعان بضابط البوليس، أو قاضي المحكمة، أو ضابط قُوات التهذيب، أو غيرهم من أصحاب السُّلطة، أوغيرهم من العامّة، في استرداد حقِّه لم يكفُر ولم يأثم. وهُنا نُقطةٌ لابُدَّ من التنبيهِ عليها، وهي أنَّ النَّاس قد اعتادُوا في هذه الجاهليَّة، أنَّ القاضي لا يُذهبُ إليه إلا عند التقاضي والتَّحاكم ،وصار ذلك عُرفَ البيئة الجاهلية، فإن قُلتَ:"تجُوزُ الاستعانةُ بالقاضي بدون تحاكم" يظنُّ بعضُ الغيورين المُتأثِّرين بعُرف البيئة، أنَّك تستحلُّ التحاكم إلى الطاغُوت، وتتحيَّلُ لذلك.وهذا قُصُورٌ وسُوءُ فهمٍ. هَبْ أنَّ مُسلماً ظُلمَ في دار كُفرٍ ،وأُخذ مالُهُ، ولا يعلمُ في البلدِ من يُعينُهُ إلا القاضي الأكبر، للقرابة الَّتي بينهما، وهذا القاضي يعلمُ عقيدةَ المُسلمِ، وأنَّهُ لا يتحاكمُ ولا يرفعُ شكوى إليهم ، فما الَّذي يمنعُ أن يذهبَ إليه المُسلمُ، ويُخبرَهُ بحاله، ويقُول لهُ:"أدرك مالي وهو عند فلان". أظنُّ لا أحدَ من العُلماء أو العُقلاء يشكُّ في جواز ذلك. فالقاضي وغيرُهُ سواءٌ في تحريم التَّحاكُم إليهم، وسواءٌ في جواز الاستعانة بهم في استرداد الحقُوق المنهُوبة . (ثالثا) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن لصاحب الحقّ مقالاً". [مُتَّفق عليه]. وليس طلبُ استرداد الحقِّ والتحاكم مُتلازمان دائما، كما يظنُّهُ بعضُ النَّاس والسببُ أنَّهم لا يقدرون على التفريق بين "التحاكم إلى الطاغوت" وبين "مطالبة استرداد الحقّ عند الطاغوت" فيضعون هذه مكان تلك. وللتفريق بينهما أضربُ مثلاً لكلٍّ مِن المعنيين: المثل الأول: أخذ رجلٌ كافرٌ من مسلمٍ قدراً من المال ثم أبى أن يردَّه إليه، فلما ألحّ المسلمُ على الطلب قال له الكافرُ: "نذهب إلى الرئيس أو الوزير أو سيد القبيلة أو الكاهن أو الساحر أو رجلٍ آخر .. فإن حكم لك أعطيتك ما تطلب، وإن حكم لي تركتَ المطالبة". فيقول المسلم: "قد رضيتُ بذلك". فالأمر إذا وقع على هذا الشكل فلا شكّ أنّه تحاكم، وأنّ هذا الذي كان مسلماً قد ارتدّ بسبب رضاه بالانقياد لحكم الطاغوت، ردَّة صريحة أو ردّة نفاق. المثل الثاني: أخذ رجلٌ كافرٌ من مسلم مالاً وأبى أن يردّه إليه، فذهب المسلم إلى أبي الرجل الظالم ـ وهو الرئيس أو الوزير أو القاضي أو الكاهن أو الساحر أو سيّد القبيلة أو البدويّ ـ فقال له: "أُريد أن تأخذ لي حقِّي من ابنك". فذهب الوالد - مهما كان منصبه ولقبه- إلى ابنه الظالم فنَزع الحقّ منه وردّه إلى المسلم . فهنا قد استردّ المسلمُ حقَّهُ واستنجد بالطاغوت دون أن يرضى بحكمه . ومثلُهُ إذا لم يكن الكافر الظالم ابناً لأحدٍ من أولئك، ولكنّ المسلم استنجد بهِم لاسترداد حقّه، فأخذوا لهُ من الظالم، فيكون المسلم كذلك مستردّاً لحقّه بدون تحاكم إلى "طاغوت". ولكن يمكن أن يقول الرئيس أو الوزير أو القاضي أو سيّد القبيلة للرجل المسلم: "نحن لا ندري أيُّكم الصّادق وأيّكم الكاذب وللبلد شريعة ومحكمة فنريد أن نحيل القضية إلى "المحكمة"، فاكتب الشكوى في ورقةٍ وقدّمها إلى القاضي، وارض بما حكم". فإن قالوا ذلك لمسلم صحيح الدِّين، فإنّه لا بُدّ أن يرفض هذا، لأنّه دعوةٌ إلى التحاكم إلى الطاغوت، وفي التّحاكم إليه اعترافٌ بشرعيَّته. فلابُدَّ أن يقول: "إنّ حقّي واضحٌ ولا أشكُّ أنّ ابنكم أو أخاكم ظلمني، وإنّ ديني لا يُبيح لي التحاكم إلى مثل محكمتكم، ولا أرى باب الكلام إلاّ قد انسدّ". فإتيان الرجل إلى الطاغية للتحاكم وفصل الخصومة هو الممنوع، أما إتيانه للدعوة إلى الله أو لطلب ردّ الحقّ الذي يقدر عليه أو لتعاملٍ مباحٍ كالبيع والشراء وما إلى ذلك فليس بحرامٍ في شريعتنا الإسلامية. ومن الخطأ والجهل الاستدلال بالنُّصُوص المُحرَّمة للتَّحاكم إلى الطاغُوت، على تحريم الذهاب إليه مُطلقاً، أو على تحريم الذهاب إلى بعضهم دون بعضهم. وتعرفُ بذلك ما يأتي: (1) إنّ الله تعالى قال: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ﴾[النساء: 60]. فجعل إيمان من يريد التحاكم إلى الطاغوت زعماً، ولم يقل الله تعالى: "كلّ من أتى إلى الطاغوت كافرٌ بالله وإن لم يكن في قلبه نية التحاكم وفصل الخصومة بحكمه". ولا يحلُّ للمسلم أن يزيد في كتاب الله ما ليس منه من الأحكام ، وعليه أن يكون وقَّافاً عند نصِّ الكتاب والسنّة. (2) قد بيّنا أن الطاغوت ليس القاضي الكافر وحده، بل يشمل اسم "الطاغوت" الرئيس والوزير وسيّد القبيلة وغيرهم من المتبوعين بالباطل، فإن صحّ هذا فلا يجوز أن نُفرِّق بين الطواغيت بآرائنا، ونقول: الذهاب إلى هذا كفرٌ، وإلى هذا ليس بكفرٍ، بدون حجّةٍ قاطعةٍ من الله ورسوله. بل الصواب أن نقول: "الذهاب إلى الجميع لأجل التحاكم وفصل النّزاع كفرٌ، والذهاب إلى أحدٍ منهم بدون نية التحاكم كإجابة دعوته ليس كفراً". (3) إنّ رئيس الدولة أو الملك الكافر أبعدُ في "الطغيان" من القاضي، لأنّ القاضي ما هو إلاّ نائبٌ من نوابه، الذين ولاّهم التصرّف في الأمور من غير الرجوع إلى الكتاب والسنّة، فهو جعل على كلّ إقليم رجلاً ينوب عنه، ثم اتّخذ "وزير الزراعة" و "وزير الصناعة" و"الخارجية" و"الداخلية" و"الصحّة" و"التجارة" و"العدل" .. إلخ. وكل واحدٍ من أولئك النواب والوزراء والقضاة ما هو إلاّ خطيئة من خطايا الرئيس أو الملك الكافر. فكيف يكون الذهاب إلى الطاغوت الأكبر بدون نية التحاكم جائزاً ولا يكون الذهاب إلى الطاغوت الأصغر بدون نية التحاكم جائزاً. (4) ثبت في الشريعة أنّ من وقع في الحرام يكون مذنباً يحتاج إلى تطهير، كمن شرب الخمر باختياره. وإن دعاه غيره إلى شرب الخمر بدون إكراه فشرب معه، فهو في حكم شارب الخمر، ولا يكون كافراً بهذه الطاعة في المعصية . ويدلُّ على ذلك كونُ كلّ مذنب مطيعاً للشيطان ومستجيباً لدعوته، وعدم كونه بهذه الطاعة وحدها كافراً لأنّه فعله باختياره واتّباعه لشهواته. وعلى ذلك فإنّ من فعل المباح أو دُعي إلى مباحٍ فأجاب لا يكون متجاوزاً لحدود الله بهذه الطاعة في المباح. ولم يحرّم اللهُ الذهاب إلى الطاغوت تحريماً عاماً يشمل من يريد منه التحاكم، ومن يريد منه الإسلام، ومن يريد منه ترك الظلم وردّ المظلمة إلى أهلها، بل نعلم بيقين أن رسل الله قد وقفوا بين يدي "نمرود" و"فرعون" و"أبي جهل" وأمثالهم ودعوهم إلى الله. ووقف الصحابة بين يدي "كسرى" و"هرقل" و"النجاشي" و"المقوقس" وأمثالهم، ودعوهم إلى الله ،كما هو ثابت في كتب الأحاديث والتواريخ. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم "عثمان بن عفان" إلى مكّة ليُخبر طواغيتها المطاعة بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ لقتالٍ وإنّما جاء للعُمرة. وذهب "محمد بن مسلمة" وأصحابه إلى "كعب بن الأشرف" مرّتين بنية قتله. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي جهل ليأمره بردّ مظلمة الرجل الغريب كما ثبت في سيرة ابن هشام. فإذا كان ابتداء الذهاب إلى الطاغوت تُبيحه الشريعة، بل توجبه أحياناً فالقول بأنّ إجابة طلب الطاغوت بالمجيء كفرٌ أمرٌ يحتاج إلى دليل ثابتٍ، وليس ذلك مما يجوز فيه القول بالرأي. فالصواب أن نقول: "إذا كان ابتداءُ الذهاب مُباحاً فإجابة الطلب مباحة كذلك، كما أنّ ابتداء فعل المعصية وإجابة الداعي إليها سواء". أمّا الأمرُ الثابت الذي لا شكّ فيه فهو صحة تكفير من رفع النّزاع إلى من لا يحكم بالكتاب والسنّة، وانتظر منه الحكم لتنقطع الخصومة بعدها، لأنّ الأدلّة القرآنية دلّت على ذلك. (5) ثبت في سيرة ابن هشام أنّ طواغيت مكّة الذين كانوا يقودون قومهم إلى الضلال وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، والذين وصفهم الله تعالى بـ"أكابر المجرمين" في قوله تعالى:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا﴾ [الأنعام: 123]. اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعضٍ: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه سريعاً. [السيرة النبوية: 295]. (طبعة مؤسسة علوم القرآن). وجاء في هذا الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ظنّ أنّهم يريدون الإسلام، ولكن لما جاءهم دعوه إلى ترك الدعوة وعابوا دينه، فأجابهم بالحقّ وانصرف عنهم. فمن ذلك تعرف: أنّ الكافر الطاغوت إذا دعا المسلم فإنّه قد يدعوه إلى الكفر والضلال، فإذا دعوا المسلم إلى ذلك فعليه أن يردّ عليهم بالحقّ، ويُظهر لهم ضلالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة وغيرها.