(الخطأ السادس) عدمُ التفريق بين مجالس الكُفر: يقُولُ بعضُ النَّاس:"مجلسُ الطاغُوت مجلسُ كُفرٍ، لا سيّما المحكمة، فيكُونُ الجالسُ كافراً مثلهم"، وهم في ذلك لا يُفرِّقُون بين مجالس الكُفر. و مجالس الكُفر ليست كلُّها على مُستوى واحد في نظر الإسلام، فينتُجُ من هذا القول المُطلق أن يُكفِّروا من لا يستحقّ التكفير. ومجالسُ الكُفر على نوعين: (الأول) مجلسٌ لا يحلُّ لمُسلم أن يجلس فيه، وهو الَّذي يُكفَرُ ويُستهزؤُ فيه بآيات الله، فمن جلس من غير إكراه أو نسيان، ومن غير ردٍّ على الكافرين، ومن غير مصلحة شرعيّة تُبيحُ لهُ الجُلوس، صار مثلهم عند الله، أمَّا في أحكام الدُنيا،فقد يصيرُ مُرتدّاً مُصرّاً على ذلك، وقد يكُونُ مُنافقاً كمن تكرّرَ منهُ ذلك ولكنَّهُ في كُلِّ مرَّة يعتذرُ بحُسن القصد أو غير ذلك مما يعتذرُ به المُنافقُون."يحلفُون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا". وقد جاء النَّهيُ عن هذه المجالس في الآيات الآتية: قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:68ـ69). وقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (النساء:140) (الثّاني) مجلسٌ يُكفرُ فيه بالله، ومع ذلك يحلُّ للمُسلم أن يجلس فيه ولو إلى وقت، و لهُ أمثلةٌ منها ما يأتي: 1) مجلسُ الدعوة والمُناظرات: وفي القُرآن ذكرُ كثيرٍ مما جرى بين المُرسلين والمُشركين حيثُ يكفُرُ المُشركُون بالله ورسُله واليوم الآخر، والرُّسُلُ تنصحُهم وتردُّ عليهم بالحُسنى. 2) مجلسُ المُفاوضات: وقد كان جائزاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُفاوضوا الكُفّار، وأن يصطلحوا معهم على أُمور، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر، ويصرحون بعدم إيمانهم لرسالة الله، كما وقع في صُلح الحُديبية فإنَّهم رفضُوا كتابة "الرحمن" وكتابة "رسُول الله". وكان يتمّ التَّفاوُضُ والمسلمون غيرُ محاصرين ولا مكرهين، بل حملهم على المصالحة والمفاوضة مصالحٌ لهم راجحةٌ، كالحصول على فترة أمنٍ يؤدّون فيها العُمرة،أو يجدون فرصةً للدعوة أو للاستعداد لمعركةٍ فاصلة. 3) مجلسُ التعامُل المُباح: المسلم قد يدخل في تعامل مع قوم كفّار كالبيع والشراء والإجارة والمعاهدات وقد ينكح الكتابية وقد يتسرّى بالمشركة بملك اليمين .. ولم يشترط الإسلام لصحة هذه العقود أن لا يتكلّم الكافر في أثناء العقد أو بعده بشيء من دينه الكفري. فالذي ينكح النصرانية يسمع منها وهي تدعو مخلوقاً من دون الله ويسمع وهي تقول: "ربّي عيسى"، وتؤمن بالصلب والفداء وغير ذلك، فلا يجوز له أن يضربها أو أن يهرب من منْزله بسبب كفرها، ولكن يحاول أن يجادلها بالتي هي أحسن حتى تقتنع بالإسلام في حريّة تامّة، ولا يدخل معها في خصومات يومية مستمرّة،ـ لأنَّهُ تزوَّجها وهُو يعلمُ كُفرها ـ وإنّما يتحيّن الفُرصة المناسبة للدعوة إلى الله. فما الذي يمنع أن يجلس المسلم مع الكفّار ليبرّئ نفسَه من تُهمٍ خطيرةٍ قد تذهب بنفسه أو تُلجئه إلى الفرار من بلده الذي فيه أهله و يقوم فيه بالدعوة إلى الله. وإذا جمع المجلسُ كفّاراً ومسلماً وكلّما تكلّموا بالباطل تكلّم بالحقّ وبيّن الصواب، وأنكر باطلهم، ولم يقبَل منهم شرعاً ولا حكماً، فقد أدّى ما عليه، وهم بالخيار أن يجوروا ويعتدوا عليه أو أن يتركوه. إنّ الكفّار يزعمون أنّهم في محكمةٍ شرعية مقدّسةٍ، والمسلمُ يعتقد أنّه أمام طاغوتٍ حقيرٍ قد كتب هواه أو هوى متبوعه في أوراقٍ وسمّاها شريعةً .. فهو لا يعترف بالقاضي ولا بأحكامه، ويتكلّم ويتصرّف في حدود الشريعة الإلهية. ومن القواعد الأصولية:"أنّ ما حُرّم لذاته تُبيحه الضرورة، وما حُرِّم لغيره تُبيحه الحاجة". والجلوس في مجالس الكفر حُرِّم حتى لا يتأثّر المسلم بباطلهم فيميل إليهم ويتابعهم على دينهم الباطل، ويدلّ على ذلك أنّ الجلوس لا يكون محرّماً على المناظر المجادل الذي يُبيّن لهم بُطلان دينهم.