(الخطأ السابع) عدمُ التفريق بين الأسير والطليق: يرى بعضُ النَّاس أنَّ من سجنهُ الطاغُوت وحكمَ عليه بسجن سنوات ،إذا كتب رسالة إلى الطاغُوت الأكبر والتمس منهُ أن ينظُرَ إلى أمره، وأنّهُ قد حُكم عليه حُكما مُخالفاً لشريعة البلاد، أنَّهُ يصيرُ بالكتابة كافراً مُؤمناً بشريعة الطاغُوت. أقُولُ: (أولا) لا يجُوزُ الإفتاء بذلك ، وليس هذا إيمانا بالباطل لأمور: (1) شريعةُ الطاغُوت ليست إلا كلامَ الطاغُوت، والكلامُ المكتُوب المقروء كالشفويّ إذا كان حقَّاً أو باطلاً، فلا ينبغي أنْ نضع شريعةَ الطاغُوت منْزلا من قُلُوبنا فوق منْزلتها الحقيقيّة. ولذا إذا قال لك الطاغُوت الأكبر:"أنت آمِنْ في بلدي". ثُمَّ سجنكَ جُنُودُهُ، وقدرت على الإتِّصال به، جاز لك أن تقُولَ لهُ: "إنَّك قد أعطيتني الأمان، وقد سجنني جُنُودك،وخالفُوا أمرك فهل أنت راضٍ بذلك". ولا تكُون بهذا القول كافراً مُؤمناً بشريعة الطاغُوت. ومثلُهُ إذا علمتَ بأنّ شريعة الطاغُوت المُدونةِ تُبيحُ دخُول الأجنبيّ في هذه البلاد لأجل التجارة، فدخلتها للتجارة فسجنُوك،وقدرت على الاتِّصال بالطاغُوت،جاز لك أن تقُولَ لهُ:"إنّكم قد أبحتُم دخُول الأجنبيّ في هذه البلاد لأجل التجارة في شرعكم ثمّ سجنتمُوني أليس هذا ظُلما وتناقُضا منكم ". (2) إنّ تذكير الكافر بشرعه الّذي خالفهُ جائزٌ للمصلحة ،كما جاء في قصّة عدي بن حاتم، وأنَّهُ جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا عَدِيُّ بنَ حَاتِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ" قلت: إني من أهل دين، قال: "أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ" قال: قلت: أنت أعلم بديني مني، قال: "نَعَمْ، أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ" قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نَعَمْ" قال: "أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟" قلت: بلى، قال: "أَوَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟" قلت: بلى، قال:"أَوَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ" قلت: بلى، قال : "ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لَكَ في دِينِكَ" قال: فتواضعت من نفسي" (أحمد وابن أبي شيبة) (3) إنَّ حُسن العدل و قبح الظلم مما تتَّفقُ عليه الأمم ، ومن ذكَّر للملك الكافر أنَّهُ مظلُوم، وطلب منهُ رفع الظُلم فقد قال حقَّا، ولا يُعدُّ مُتحاكماً في عُرف الشرع، لأنَّ طلبَ رفعِ الظُّلم شيءٌ والتحاكمُ شيءٌ آخر. وقد قال يُوسف عليه السَّلام لصاحبه في السجن: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾. قال البغوي: ﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يعني: سيدك الملك وقل له: "إن في السجن غلاماً محبوساً ظلماً طال حبسه". وقال ابن كثير في تفسيره: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يقول:"اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك" وقال في "قصص الأنبياء": يخبر تعالى أن يوسف قال للذي ظنه ناجياً منهما وهو الساقي: ﴿اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ﴾ يعني اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب. (4) إنَّ التحيُّل والكذب ومُوافقة الكُفار في الظاهر للنجاة من شرِّهم في بعض الأحيان جائزٌ في شرعنا: روى النسائي في سننه باب:"الرجل يكون له المال عند المشركين فيقول شيئاً يخرج به ماله" عن أنسٍ قال: "لما افتتح رسول الله خيبر قال الحجاج بن علاطٍ: يا رسول الله: إنَّ لي بمكةَ مالاً وإنَّ لي بها أهلاً وأنا أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلتُ منك وقلت شيئاً فأذن له رسول الله فلما قدم على امرأته بمكة قال لأهله: اجمعي ما كان لك من مالٍ وشيءٍ فإني أريد أن أشتري من مغانم رسول الله وأصحابه فإنهم قد أبيحوا وذهبت أموالهم فانقمع المسلمون وظهر المشركون فرحاً وسروراً".(ورواهُ أحمد وغيره). قال ابن القيِّم: "ليس كل ما يسمى حيلة حراماً، قال الله تعالى: "إلا المُسْتَضْعَفِين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً" أراد بالحيلة التحيل على التخلص من بين الكفار، وهذه حيلة محمودة يُثَاب عليها، وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار، كما فعل نعيم بن مسعود يوم الخندق، أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحَجَّاج بن علاط بامرأته، وكذلك الحيلة على قتل رأسٍ من رؤوس أعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيْقِ اليهودي وكعب بن أشرف وأبا رافع وغيرهم؛ فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له. " وقال: ومنها: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرَر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين . حتى أخذَ مالَه من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سبباً في حصول هذه المصلحة الراجحة. ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصمَ خلافَ الحق ليتوصل بذلك إلى استعلام الحق، كما أوهم سليمان بن داود إحدى المرأتين بشَق الولد نصفين حتى توصل بذلك إلى معرفة عين الأم.(اهـ) (5) إنَّ المسجُون مُكرهٌ ولا خلاف بين العُلماء في الأمد الطويل: قال الحافظ ابن حجر: "واختلف فيما يهدد به فاتفقوا على القتل وإتلاف العضو والضرب الشديد والحبس الطويل، واختلفوا في يسير الضرب والحبس كيوم أو يومين".(فتح البارئ\ كتاب الإكراه) وقال أيضاً -في نفس المصدر- :"الإكراه هو إلزام الغير بما لا يريده، وشروط الإكراه أربعة: 1ـ أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار. 2ـ أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك. 3ـ أن يكون ما هدده به فورياً، فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً أو جرت العادة بأنه لا يخلف. 4ـ أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره"(اهـ) وقال الإمام الشّافعي: في رجلٍ أُسر فَتَنَصَّرَ، وله امرأةٌ فَمَرَّ به قومٌ من المسلمين، فأَشرفَ عليهم وهو في الحصنِ، فقال: إنَّما تَنَصَّرْتُ بلساني، وأنا أُصَلِّي إذا خَلَوْتُ، فهذا مُكْرَهٌ، ولا تبين منه امرأته.(الأمّ) وإجراء كلمة الشرك على اللسان رخصة والامتناع هو العزيمة، فمن ترخص بالرخصة وسعهُ، ومن تمسك بالعزيمة كان أفضل له؛ لأن في تمسك المُسلم بالعزيمة إعزازُ الدين، وغيظُ المشركين، فيكون أفضل. وإن امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثماً، بل هو مأجور فيه. (ثانياً) وأمَّا ما يُعرفُ بـ"استئناف الحُكم"، فإن كان معناهُ طلب إلغاء الحُكم السَّابق، وإعادة جلسة المحكمة، أو الإحالة إلى محكمة أُخرى لتحكم في القضية من جديد فلا شكَّ أنَّهُ طلبٌ للتحاكم ورضى به. ومن فعلهُ مُختاراً غير مُكره ولا مأسُور،فهُو يكفُرُ به. ولا أدري لماذا يُثارُ حولها الجدلُ مع وضُوحها، لأنَّ الَّذي تحاكم فحكمت المحكمة لصالح غيره، فقد كفر بهذا التحاكم، فإن طلب جلسةً أخرى فقد تمادى في الضلال. وإن كان قد تاب من الأول، ثمَّ طلب من المحكمة استئناف الحُكم، فقد عاد إلى الكُفر الَّذي تاب منهُ. ولا يصلُحُ قولُ يُوسف عليه السَّلام:﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾..الآية. للاستدلال به على جواز طلب "استئناف الحُكم" إذ ليس فيه إلاّ أن تُذكر قصتهُ للملك، وأنَّهُ مسجُونٌ ظُلماً. قال ابن كثير: ﴿ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ﴾ يقول:"اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك"ولكن في الآية جوازُ استعانة المُلُوك في استرداد الحُقُوق.