(الخطأ الرابع) التفريق بين المسائل في التَّحاكم: يبدوا من كلام بعض من كتب عن التَّحاكم أنَّهُ يُفرِّقُ بين المسائل، ويرى أنَّ من أجاب دعوة الطاغُوت يكفُرُ إذا كانت الخصُومة في مال أو دم أو عرض . ولا يكفرُ إذا كانت في عقيدة. وهذا التفريق لا تُؤيِّدُهُ الأدلَّةُ، ويظهرُ بُطلانهُ لمن نظر إلى أمرين: (الأول) الطاغُوت يدّعي الربوبية والحاكمية، ويرى أنَّهُ صاحب الحقِّ في فصل القضاء، في كُلِّ المسائل، سواء تولَّى القضاء بنفسه، أو ناب عنه القاضي أو غيرهُ. وتنُصُّ جميعُ الدساتير الوضعية الَّتي يضعُها الطواغيت في هذا الزمن على تقرير كثير من المسائل العقدية. فيقُولُون مثلا: "إنَّ الدِّين الرسمي للبلد هو كذا"، و"دولتُنا دولةٌ ديمقراطية"، و"المُواطن لهُ الحقّ والحُرِّية في اختيار الدِّين"، و"الزنا ليست جريمة إذا كانت تراضياً بين الطرفين"، و"لا يحلُّ الانتماء إلى جماعة مُنظَّمة". وغير ذلك. ومن المعلُوم أنَّهم لا يضعُون هذه المواد القانُونية إلاّ للاعتماد عليها في الفصل بين النَّاس في الخصومات، والقضاء على المُعارضات والثَّورات. فمن رضي بحكم الطاغُوت في العقائد يكُونُ أشدُّ كُفراً ممن رضي بحُكمه في الدماء والأموال والأعراض.لأنَّ شأنَ العقائد أعظمُ من شأن الأحكام الفرعية كما هُو معلُوم. وإذا كان الَّذي لا يتحاكمُ إلي الطاغُوت في الخصومات الدينية، لا يكفُرُ بمُجرَّد إجابة دعوته إلى الحضُور والدخُول في النِّقاش الديني. فإنَّ الَّذي لا يتحاكمُ إليه في الخصومات المالية لا يكفرُ أيضاً بمجرَّد إجابة دعوته إلى الحضور والدُخُول في النِّقاش المالي، وهذه من البديهيات. (الثاني) لا تُوجدُ من الأدلّة ما يُفرِّقُ بين قضيَّة وأخرى ،أي ما يُبيِّنُ أنَّ لهُ الحقَّ في الفصل بين النَّاس في القضايا الدينية، دون قضايا الدماء والأموال. لأنَّ الطاغُوت عبدٌ، وتجبُ عليه التَّوبة من الطُغيان، وأن يخضع وينقاد لأمر ربِّه، وليس لهُ الحقُّ في فصل القضاء ، ولا فرقَ بين قضيّة وأخرى في ذلك. ومن فرّق بين القضايا ،وأجاز التحاكُم إلى الطاغُوت في بعضها دون بعضها فعليه الدليل. بل الحقُّ أنّ الله وحدهُ هو الّذي لهُ الفصل في كلِّ قضيَّة اختلف فيها النَّاسُ. قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشُورى) وقد جاء هذا النصُّ في معرض الحديث عن الاختلاف في الكُفر والإيمان. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ (الشُورى:7ـ10) وعلى هذا إذا قال مُسلمٌ:"مُحمَّدٌ رسُولُ الله" أو "القُرآنُ كتابُ الله" فنازعهُ الكُفارُ من قومه، وقالُوا:"بل ضللتَ". ثُمَّ رضي المُسلمُ بالتحاكم إلى سيّد القبيلة وقطع التنازع بقوله، فإنَّهُ يرتدُّ بهذا التحاكم، بل بمجرَّد الإرادة. وإن تنازعُوا في دم أو مال أو عِرض فرضي المُسلمُ بالتحاكم إلى سيّد القبيلة وقطع التنازع بقوله، فإنَّهُ يكفرُ بهذا التحاكم، بل بمجرَّد الإرادة. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء:60) إلى قوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).