(الخطأ الخامس) عدمُ التفريق بين عابد الطاغُوت والكافر به: يقُولُ بعضُ النَّاس:"الحُكمُ عبادةٌ، ومجلسُ الطاغُوت مجلسُ عبادة، فكلُّ من أجاب دعوتهُ ودخل في مجلسه فهو كافرٌ وفي عبادة الطاغُوت، وإن كان مُسلما قبل مجيئه". أقُولُ هذا الإطلاق خطأ وخطرٌ كذلك.والطاغُوتُ ليس طُغيانُهُ في الزمن اليسير الَّذي يفصلُ فيه بين المُتخاصمين، وإنّما هو طاغُوت في كُلِّ ساعةٍ، مادام على باطله واستحلاله لقيادة البشر بهواهُ، وكذلك أتباعُهُ ليسُوا كُفاراً في أثناء الجلسة فقط، بل هم كُفارٌ مادامُوا باتِّباع شرعه راضين. والمُسلمُ كافرٌ بالطاغُوت، ولا يكُونُ بالدخُول إليه كافراً، إذا كان الدُخُولُ مأذوناً في شرع الله. وبالنَّظر إلى الأمثلة الآتية يتبيَّنُ لك خطأُ هذا الإطلاق وخطأ رمي الكُفر على كُلِّ داخل على الطاغُوت مُطلقاً أو على كُلِّ مُتكلِّمٍ في مجلس حُكمه: (الأول) أرسل طاغُوت مُتجبِّرٌ إلى رجُلين مُسلمين، قائلا لهما: بلغتني الشكاوي بأنّكما أنكرتُما دينَنا وعبادةَ صنمِنا ،وأريدُ منكما أن تأتُوا إلينا في الصباح الباكر لتعبُدوا معنا صنمنا ، وإن غبتما عن العبادة فسوف أجعلكما نكالا لغيركما. فاختلف الرجلان، فقال أحدهما: "أذهبُ وأقُولُ لهم الحقَّ"، وقال الآخرُ:"لا أدخُلُ مجلسَ عبادة لغير الله، بل أفرُّ بديني". فلمَّا ذهب الأولُ إليهم، ودخل مكان الاجتماع، طلبُوا منهُ الدخولَ في عبادة الصنم، فأنكر عليهم ودعاهم إلى التَّوحيد و البراءة من الشرك، فأسلمُوا، أو غضبُوا عليه وقتلُوهُ. فأيُّ الرجُلين أعلى مكانة في ميزانِ العقيدة!!؟ أظنُّ لا اختلاف في كون الأول أعظمَ درجة، وأعلى مكانة من الثَّاني، لأنَّهُ وقف موقف الصدِّيقين، وأقام الحُجَّة على المُبطلين. وإذا فليس كلُّ دخُولٍ في مجلس عبادةِ غير الله يكونُ كُفراً مُخرجاً من الملَّة، وإنَّما الدُخُولُ على حسب نيَّة الداخل. (الثَّاني) نشر رجُلان عقيدة الإسلام فأغضب ذلك العامَّة الجاهلة، فتآمروا على الرجُلين، واتَّهمُوهما بالباطل ولفقُوا لهما الأكاذيب، وقدَّمُوها إلى الطاغية، فأرسل إليهما يطلُبُ مجيئهما في موعد مُعيَّن. فاختلف الرجلان، فقال الأولُ: "أذهبُ إليهم وأُبيِّنُ لهُم الحقَّ "، وقال الآخرُ: "لا أدخُلُ مجلس عبادة، بل أفرُّ بديني وأخرُجُ من البلد". فلمَّا ذهب الأولُ إليهم، وأتى المجلس ذكرُوا لهُ التُّهمة، فردّها وأظهر بُطلانها، فعرفُوا براءتهُ فتركُوهُ و صاحبَهُ. فأيُّ الرجُلين أعلى مكانة في ميزانِ العقيدة!!؟ أقُولُ: "الأول أعظمَ درجة، وأعلى مكانة من الثَّاني، لأنَّهُ برَّأ دُعاةَ الإسلام من التُّهمة الباطلة، ولم يقُل إلا حقّاً" فإن قيل: كفرَ بإجابة الدعوة ودخُول المجلس. قُلتُ: لو كفر هذا لكفر الّذي دُعي إلى عبادة الصنم في المثال الأول. فإن قيلَ: هذا مُتحاكم. قُلت: المُتحاكمُ طالبٌ وهذا مطلُوب ولم يُطاوع، ونيَّتُهُ مُقدَّمةٌ على نيَّةِ الكافرِ، وقد وقف موقف يُوسُف عليه السّلام، وجعفر بن أبي طالب وأصحابه. فإن قيل: هو مُتحاكم في العُرف. قُلتُ: هوغيرُ مُتحاكم في الشرع، والشرعُ أولى بالاتِّباع، والعُرفُ الجاهلي ليس مرجعاً للأحكام الدينية. فإن قيل: كانت قضيَّة الصحابة خصومة في الدِّين، وفي مثلها يجُوز المُثُول بين يدي الطاغُوت لإحقاق الحقِّ وإبطال الباطل. قُلتُ: الخصُومة في الدِّين، والخُصُومةُ في الأموال والدماء كلُّها خُصومات ونزاعات بين طرفين، والطاغُوت يُريدُ إصدار الحُكم لفصل الخصُومات كُلَّها، فمن وجد دليلا للتفريق بين الخُصُومات فليقُل به، ومن لم يجد فليتَّق الله ولا يُفرِّق بين الخُصُومات برأيه، ولا يزد في كتاب الله أحكاماً ما أنزل اللهُ بها من سُلطان.