(الخطأ الأول) في تعريف التَّحاكم والمُتحاكم إنَّ نقصَ معرفة بعض النَّاس بتعريف التَّحاكم والمُتحاكِم جعلتهم يُوسِّعُون الدائرة ويظنُّون بعض الحالات أنَّها من صُور التَّحاكم، فكفَّرُوا لأجل ذلك من لا يستحقّ التكفير. والتحاكم: هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النزاع القائم بين اثنين أو أكثر بحُكمه. والتحاكم إلى الطاغُوت: هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النزاع بحُكمه. والمُتحاكمُ إلى الطاغُوت: هو من تحاكم أي: أظهر رضاهُ بفصل النزاع بحُكم الطاغُوت سواء كان مُدعياً أو مُدعياً عليه. هذا هُو التعريف المُوافق للُّغة و لسبب نزول الآية الّذي ذكرهُ المُفسِّرون. قال الطبري في تفسيره: "وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول اللـه صلى اللـه عليه وسلّم بين أظهرهم". ثُمَّ ذكر عن عامر الشَّعبي أنَّهُ قال في هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤا إلَى ٱلطَّـٰغُوتِ﴾ قال: "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهينة، فأنزل اللـه فيه هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ - حتى بلغ- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.(اهـ) وقال ابن كثير في تفسيره: "هذا إنكار من الله عز وجل على من يدَّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف . (اهـ) وقال: "وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة. وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، ولهذا قال:" يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤا إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ" إلى آخرها".(اهـ) إنَّ كونَ التَّحاكم إلى الطاغُوت كُفراً, أخذ من نصِّ الكتاب، وهو أيضاً مُفسَّرٌ ومعلُومٌ، وهو خصُومة بين طرفين وجهةٌ ثالثةٌ لا تحكمُ بالكتاب والسنَّة يرضى بها الخصمان لفصل النزاع بينهما. وهذه الصُّورة نقطعُ أنَّها تُخرجُ المُتحاكم من الملَّة ،لأنَّها منصُوصةٌ، ولأنَّ فعلُ ذلك إعراضٌ عن حُكم الله، واعترافٌ بشرعيّة حُكم الجاهليَّة. أمّا ما عدا هذه الصُّورة، مما هو في عُرف الجاهلية من صُور التحاكم، فلسنا نقُولُ إنّها تحاكمٌ مُخرجٌ من الملَّة إلا بدليل واضح كالشمس لأنَّ التقدُّم بين يدي الله ورسُوله في إصدار الأحكام من أقبح الضلال. ولذا فإنَّ من لم تظهر منهُ إرادتُهُ ورضاهُ بفصلِ النزاع بحُكم الطاغُوت، ولم يرفع إلى الطاغُوت طلباً لفصل القضاء، ولم يدعُ خصمهُ إلى ذلك، فليس مُتحاكماً وإن جيء به إلى جلسة الحُكم وتكلَّم بالحقِّ. ومن جعلهُ متحاكماً فلم يقُل ذلك عن دليل ثابت من الكتاب والسنَّة، بل قال ذلك من رأيه، والرأيُ يُخطئُ ويُصيبُ. ومن النَّاس من يُقرُّ بالتعريف الصحيح للتَّحاكم، ويقُولُ:"التحاكم إلى الطاغُوت:هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النزاع بحُكمه"، ولكنَّهُ يهجُرُ هذا التعريف أو ينساهُ حينما يتحدَّثُ عن قضيَّة التَّحاكم، فيقُولُ:"من دعاهُ أو دعتهُ المحكمةُ يكفُرُ بالذِّهاب، وهو مُتحاكمٌ" أو يقُولُ: "من جيء به إلى مجلس حُكم الطاغُوت فتكلَّم ودافع عن نفسه كفر، وهو مُتحاكم". والأفضلُ الأقربُ إلى الصِّدق لهؤلاء أن يقُولُوا:" التَّحاكمُ إلى الطاغُوت: هو حضُورُ مجلسِ حُكم الطاغُوت" أو "هو التكلُّمُ في مجلس حُكم الطاغُوت"، ثُمَّ يُقيمُوا البراهين على صحَّة تعريفهم. أمَّا أن يقولُوا: "التحاكمُ هو إسنادُ القضاء إلى حاكم والرضى بفصل النّزاع بحُكمه"، ثمّ يُكفِّروا من لم يشملهُ هذا التعريف، ولم يدخُل فيه، ويجعلُوهُ مُتحاكماً، فتناقُضٌ سيئٌ يجبُ التَنَزُّه عنهُ.