سلوك العـقلاء (أولا) : الصدق والإخلاص في العمل والنية إنّ العقلاء إذا تدبّروا آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدركون أنهم لا ينالون رضى الله وجنَّته إلا بالصدق والإخلاص في العمل والنية ... وأنّ كثرة الأعمال مع المداومة عليها لا تنفع أحداً إذا شابتها شوائب الشرك الظاهر أو الخفي. يقول الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. وقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]. وقال: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر: 2-3] وقال: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ﴾ [الزمر: 14-15]. وقال: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 29]. وفي الحديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" . [متفق عليه] وفي الحديث: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمِل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" [مسلم]. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال"؟ قالوا: بلى يا رسول الله . قال: "الشرك الخفيّ، يقوم الرجل فيصلِّي فيزيِّن صلاته لما يرى من نظر رجل" . [أحـمد]. عن شداد بن أوس مرفوعاً: "من صلّى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك وأن الله عز وجل يقول: أنا خير قسم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدّة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به. وأنا عنه غنيٌّ" . [أحـمد]. قال شداد بن أوس رضي الله عنه: "كنّا نعدّ الرياء على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشرك الأصغر" . وهذا بحسب حال صاحبه فقد يصل ببعض الناس إلى الشرك الأكبر. ونجاة العبد منوطةٌ بالإخلاص والمتابعة وهي شرطٌ لصحة الأعمال وقبولها عند الله ولا خلاف في ذلك: قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ قال: "أخلصه وأصوبه"، قيل: يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله والصواب ما كان على السنّة" . إن الطاعة التي أمرها الله من الصلاة والزكاة والحج والجهاد وتعليم القرآن وأصول الدِّين والحديث، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بوظيفة الإمامة في المسجد أو التأذين للصلاة وغير ذلك من الأعمال الظاهرة، إنما شُرعت لطلب القربة إلى الله ونيل الجنة والنجاة من النار، فمن أدّاها بهذه النية فهو المخلص لله في عمله. ومن أدّاها بنية كسب ثناء الناس، أو جمع الدنيا .. فهو المشرك الخاسر الذي يجازي بحسناته في الدنيا وليس له في الآخرة حسنة: قال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15-16]. وفي حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّرُ بهم النار يوم القيامة: رجلٌ قارئٌ كان يقوم به آناء الليل وآناء النهار. وكان قصده كسب ثناء الناس ليقال له "قارئ", ورجل كثير المال والصدقة أنفق ماله ليقال له "جوّاد", وآخر قتل في سبيل الله وكان قصده أن يُقال "جرئ", ولذلك فإن الذي علّمه القرآن والفقه في الدين عليه أن يعلم أن تعليم النّاس القرآن -صغاراً وكباراً- وتفقيههم في دينهم طاعة من الطاعات الواجبة عليه, وأن عليه القيام بها سواء أعطاه الناس شيأً أم لم يعطوه شيأً, لأنه عبدٌ مكلّفٌ من قبل ربّه العظيم. وعليه أن يقسم وقته, ويجلس حيناً لتعليم الناس وحيناً لطلب معاشه. فإن قيّض الله له من يعينه في الله عملاً بقوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البرِّ والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ويعطيه حتى يقدر على تعليم خلق كثير وإعطاء هذه الوظيفة وقتاً طويلاً .. فلا بأس بأخذه ذلك. وليست هي أجرة للتعليم وإنما هي تعاون على البرّ والتقوى الذي أمره الله .. ونيته أن يقوم بهذا الواجب الإلهي سواء أعطي أم لم يعط . فهذه هي طر يقة المعلّم والقارئ المخلص الذي يبتغي بعمله وجه الله . أما الذي لا يعلّم أحداً إلا بالأجرة المعينة, فإن انقطعت عنه يترك التعليم أو إمامة الناس في الصلاة أو التأذين لها فهذا لا خير فيه وله نصيب من الشرك لأنه يعمل بطاعة الله لأجل الدنيا , وقد أكل حسناته في الدنيا . وقد أفتى الإمام أحمد رحمه الله بترك الصلاة خلف الإمام الذي يؤم الناس بالأجرة , فإن انقطعت عنه الأجرة ترك الإمامة .. وذلك لعدم إخلاصه. وهذا كمثل رجل يجاهد في سبيل الله بالأجرة فإن أُعطي جاهد وإن لم يُعط رجع .. فليس جهاده في سبيل الله . أما آخذ الأجرة على الطبّ المباح فلا بأس به سواء كان ما يطبّ الناس به أدوية وعقاقير أو كانت أدعية وآيات من القرآن وقد فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم مرّةً في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنّ الطبّ ليس طاعة واجبة على المسلم وإنما هو داخلٌ في المباحات. ولما أخبرب إمرأةٌ النبي صلّى الله عليه وسلّم بمرضها وطلبت منه أن يدعو الله لها .. قال لها: "أو تصبري ولك الجنّة" أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم .