(ثالثاً) قصر الأمل قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64]. وقال تعالى : ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ﴾ [ القصص : 79-60 ]. وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14] وقال تعالى: ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [ الحديد : 20 ]. وقال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾[ التكاثر:1-2]. وقال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [ التكاثر : 8 ]. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. [البخاري]. قال الإمام النوويّ: "قالوا في شرح هذا الحديث لا تركن الى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالإعتناء بها ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب الى أهله" . عن عبد بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلت يا رسول الله لو اتّخذنا لك وطاء فقال: "ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها" [الترمذي]. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "مثل الدنيا وأهلها ما مثلها به النبي صلّى الله عليه وسلّم كظلّ شجرة والمرء مسافر فيها إلى الله فاستظلّ في ظلّ تلك الشجرة في يوم صائف ثم راح وتركها ... فتأمل حسن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء. فإنها في خضرتها كشجرة وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً كالظلّ، والعبد مسافر إلى ربّه والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها داراً ولا يتّخذها قراراً بل يستظلّ بها قدر الحاجة ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق" [عدّة الصابرين]. عن أم سليم قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "اصبري فو الله ما في آل محمّد شيء منذ سبع ولا أوقد تحت برمة لهم منذ ثلاث والله لو سألت الله أن يجعل جبال تهامة كلها ذهباً لفعل" [الطبراني]. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "مرَّ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نعالج خصاً لنا فقال ما هذا؟ فقلنا قد وهي ونحن نصلحه.فقال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك" [الترمذي]. عن خالد بن عمير العدوي قال: "خطبنا عتبة بن غزوان وكان أميراً على البصرة فحمد الله وأثنى عليه ... ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يُلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين لا يُدرك لها قعراً والله لتملأنَّ ... أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ من الزحام ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لنا طعام إلا ورق الشجرة حتى قرحت أشداقنا فالتفظت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فأتّزرتُ بنصفها واتّزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً" . [مسلم]. وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إن الدنيا قد ارتحلتْ مدبرةً وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبنا الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". [ابن رجب]. وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: "من ذا الذي يبني على مرج البحر داراً؟ تلكم الدنيا فلا تتّخذوها قراراً" . وقال أيضاً: "اعبروها ولا تعمروها" . [ابن رجب]. قال يونس بن عبد الأعلى: "ما شبهت الدنيا إلا كرجلٍ نام فرآى في منامه ما يكره وما يحبّ ثم انتبه". [عدّة الصابرين]. لما أمر الوليد بن عبد الملك بهدم حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لتوسعة المسجد النبوي قال عطاء سعمتُ سعيد ين المسيب يقول يومئذ: والله لوددتُ أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة ويقدّم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته ومفاتيح خزائن الدنيا بيده". [نفحات من منبرة الرسول]. قال الإمام ابن حجر في الفتح: "قصر الأمل سبب الزهد لأن من قصر أمله زهد ... ويتولد من طول الأمل الكسل بالطاعة والتسويف بالتوبة والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب، لأنّ رقّته وصفاؤه إنما يقع لتذكير الموت والقبر والثواب والعذاب وأهوال القيامة، كما قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ .