1- الحياة الدنيا في نظر الإسلام قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾[الرعد: 26]. وقال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: 77]. وقال تعالى: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وقال تعالى: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: 39]. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية "ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك. وقال تعالى في آخر الآية ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ أي نبين الحجج والأدلة ﴿لقوم يتفكرون﴾ فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعا مع اغترارهم بها وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها ونقلتها عنهم فإن من طبعها الهرب ممن طلبها والطلب لمن هرب منها وقد ضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز فقال في سورة الكهف ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾ وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا كماء. اﻫ . وقال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت]. قال سيد قطب عند تفسير هذه الآية: "وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها. فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب،وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون.. فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة . حين تكون هي الغاية العليا للناس. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة. فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية. هي الحيوان لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء . والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيداً. إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه. إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله. كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له ، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه ! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح. فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن؛ ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكا لحريته معتدلا في نظرته: الدنيا لهو ولعب ، والآخرة حياة مليئة بالحياة ... وقال أيضاً عند قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ﴾ قال: والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا.ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيدا تافها . وهي هنا في هذا التصوير تبدوا لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة ! يصور الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهون من شأنها وترفع النفوس عنها وتعلقها بالآخرة وقيمها... لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر هذه هي الحقيقة وراء كل مايبدو فيها من جد حافل وإهتمام شاغل ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية ، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله الى غرور خادع.. وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة . حقيقة لايقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري ، إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية والإستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض، هذا الإستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم ،والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ليحقق عقيدته ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعاً. فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن .شأن يستحق أن يحسب حسابه وينظر إليه ويستعد له ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا وهي لا تنتهي الى حطام. كذالك النبات البالغ أجله إنها حسان وجزاء ودوام ييستحق الإهتمام اﻫ . وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تبين نظرة الإسلام في الحياة الدنيا عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" [مسلم]. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) [مسلم]. روى ابن أبي حاتم: أن الحسن قرأ هذه الآية ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ﴾ قال: رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك،وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين كان أبو مصهر ينشد: ولاخير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها متاع قليل والزوال قريب كتب حسن البصري الى عمر بن عبد العزيز أما بعد: ((فإن الدنيا دار ظعن وليس بدار مقام. وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها والغني فيها فقرها، تذلّ من أعزّها وتفقر من جمعها. لم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فأحذر هذه الدار الغرارة الخداعة وكن استر ما تكون فيها. احذر ما تكون لها سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل وقد جا من الله عز وجل عنها زاجرٌ وفيها واعظ لقد عُرضت على نبينا صلّى الله عليه وسلّم مفاتيحها وخزائنها لاينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقيمها وكره أن يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه ،زواها الله عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائه اغتراراً .أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسي ما صنع الله بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حين شد على بطنه الحجر و الله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به وإلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه ..)) [الخطب المنبرية]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر مؤنق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن. فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)) [الخطب المنبرية]. ووصف علي بن أبى طالب رضي الله عنه الدنيا فقال: "دار من صح فيها هرم، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فتن. في حلالها حساب وفي حرامها النار" [عدة الصابرين]. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "الدنيا دار من لا دار له ومال من لامال له ولها يجمع من لاعقل له". وقال أيضاً: "كل أحد في هذه الدنيا ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مؤداة" [عدة الصابرين]. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "يؤتي بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوزة شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوه خلقها فتشرف على الخلائق. فيقال: أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ الله من معرفة هذه. فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم وأغررتم ثم يُقذف بها في جهنم فتنادي أين اتباعي وأشياعي؟ فيقول الله عز وجل الحقوا بها أتباعها وأشياعها" [عدة الصابرين]. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ هو وأصحابه بسخلة ميتة لهم فقال لهم: هل ترون هذه هانت على أهلها؟ قالوا: نعم يا رسول الله فقال رسول الله: "والذي نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله عز وجل من هذه على أهلها حين ألقوها" [أحـمد]. عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "لو كانت الدنيا تعدل عندالله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" [ الترمذي ]. عن أبى هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّميقول: "ألا إن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلّماً" [الترمذي]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغُ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط" [مسلم].