(13) فوائد عامة: أصل (373): "يُزال الضرر بلا ضرر". (شرح الكوكب المنير: 4/442). (الأشباه والنظائر: 95). وفي الحديث: "لا ضرر ولا ضرار". [أحمد وابن ماجه والحاكم]. أصل (374): "المشقّة تجلب التيسير". (شرح الكوكب المنير: 4/445). (الأشباه والنظائر: 84). لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]. أصل (375): "الأمورُ بمقاصدها". (شرح الكوكب المنير: 4/454). (الأشباه والنظائر: 9). للحديث: «إنّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». [متّفق عليه]. أصل (376): "من كلّف بمصالح غيره وجب على المسلمين القيام بمصالحه". كإمام العامّة والقاضي وإمام المسجد والمؤذن ومؤدب الصبيان. (الموافقات: 2/644). أصل (377): "الشرعُ يأمرُ بسدّ الذرائع إلى المفاسد". الوسائل المؤدية إلى المفاسد أربعة أقسام: (1) وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة: كشرب المسكر والزنا وما إلى ذلك. وقد جاءت الشريعة بالمنع من هذا القسم. (2) وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوصل إلى المفسد: كمن يعقد النكاح قاصداً به التحليل أو بعقد البيع قاصداً به الربا .. وجاءت كذلك بالمنع من هذا النوع من الوسائل. (3) وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة ولكنها مفضية اليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها: كالصلاة في أوقات النهى ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم وتزين المتوفي عنها في زمن عدتها. وقد جاءت الشريعة بالمنع من ذلك. (4) وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها كالنظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحقّ عند ذي سلطان جائر. فالشريعة جاءت بإباحة أو استحباب أو إيجاب هذا القسم من والوسائل. (أعلام الموقّعين: 3/122). أصل (378): "إذا ضاق الأمر اتّسع". قاله الإمام الشافعي. لأنّ المسلم إذا ضاق عليه الأمر وخشي الهلاك حلّ له أن يأكل الحرام، وإذا دخل وقت الصلاة ولم يجد إلاّ ثوباً لا يحلّ لبسه حلّ له أن يصلي فيه ... وأمثال ذلك كثير. (الأشباه والنظائر: 92). أصل (379): "الحدود تُدرء بالشبهات". (الأشباه والنظائر: 136). للحديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات». أصل (380): "إذا اجتمع أمران من جنس متّفقا المقصد دخل أحدهما في الآخر غالباً". فإن دخل المسجد وصلّى الفرض دخلت فيه التحية. ولو اجتمع حدث وجنابة كفى الغسل، وكذا اجتماع الجنابة والحيض. ولو تعدّد السهو في الصلاة لم يتعدّد السجود. ولو قذف قبيلة حُدّ حدّاً واحداً. ولو سرق مِراراً حُدّ حدّاً واحداً. (الأشباه والنظائر: 140). أصل (381): "جاهل توحيد الله ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم لا يصحّ له إيمانٌ وإسلامٌ" وكذا الكتب والملائكة والبعث بعد الموت. والمؤمن: هو الذي علِم واستيقن بأنّ الإيمان بِهذه الأصول حقٌّ، فأظهر الرِّضى والقَبول. والمسلم: هو الذي علِم ذلك فأظهر القَبول والرِّضى، سواءً أخفى في الباطن الكفرَ أو كان مؤمناً ظاهراً وباطناً. (شرح الكوكب المنير: 485). أصل (382): "الأمر بالشيء أمرٌ بجميعه، وتحريم الشيء تحريم لأجزائه". فقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء:3]. لا يتمّ إلاّ بالعقد والجماع معاً. وقوله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ [البقرة: 221]. يحرِّم العقد كما يحرّم الجماع. (الفتاوى: 21/85-86). (المسودّة: 99). أصل (383): "الصفةُ تُلازِمُ الموصوفَ، وتعطيل الأسماء الشرعيّة أمرٌ مستحدثٌ". قال الإمام الطبريُّ في قراءة قوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110]. حيثُ قرأ بعضُ القُرَّاء: (إِنْ هَذَاْ إِلاّْ سَاْحِرٌ مُبينٌ). فقال: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متفقتان غير مختلفتين، وذلك أنّ كل من كان موصوفاً بفعل السحرِ فهو موصوفٌ بأنَّه ساحرٌ، ومن كان موصوفاً بأنّه ساحرٌ فإنّه موصوفٌ بفعل السحرِ، فالفعلُ دالٌّ على فاعِله والصِّفة تدُلُّ على موصوفها، والموصوفُ يدُلُّ على صفتِهِ والفاعِلُ يَدُلُّ على فِعله؛ فبِأَيِّ ذلك قرأ القارئُ فمصيب الصواب في قراءته. (جامع البيان: 5/128). أصل (384): "التكفيرُ والتبديعُ والتفسيقُ شريعةٌ ولا يجوز القولُ فيها بالرّأي". (الفتاوى: 28/468-469 ، 501). أصل (385): "الكفرُ يكون جليّاً وخفيّاً". فالجليّ: هو الذي يعلمه العلماء والعامة، كمن أشرك بالله أو أنكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أو سبّ الله ورسوله أو أنكر البعث أو القرآن أو الملائكة، فمن فعل ذلك حُكم بردِّته إذا قامت البيِّنة. قال ابن قـدامة في المغني: "إذا شهد عليه بالردّة من تثبُ الردّةُ بشهادته فأنكر لم يُقبل إنكارُه واستُتيبَ فإن تاب وإلاّ قُتل، وحُكِيَ عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنّ إنكاره يكفي في الرُّجوع إلى الإسلام، ولا يلزمه النطق بالشهادتين". ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن عليّ رضي الله عنه أنّه أُتِيَ برجلٍ عربيّ قد تنصّر فاستتابه، فأبى أن يتوب فقتله. وأُتي برهطٍ يُصلُّون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا، وقالوا: ليس لنا دينٌ إلاّ الإسلام، فقتلهم ولم يستتبهم. والخفيّ: هو الذي يخفى على عامة المسلمين لثبوته بدليل نظريٍّ قطعيٍّ، ولكن يعلمه العلماء، فمن أنكر ما دلّت عليه آيةٌ من كتاب الله لجهله .. مثل: أنّ للبنت نصفاً في الميراث إذا انفردت أو على القاذف ثمانين جلدة .. يجب أن يُبيّن له الدليل قبل تكفيره .. أمّا إذا كان عالماً فإنّه يُستتاب. (المغني: في كتاب الردّة). أصل (386): "قد يكون القولُ كفراً ولا يكفر القائل لفوات شرط أو وجود مانعٍ". كمن أُكرهَ بكلمة الكفر، ومن جحد معلوماً من الدِّين بالضرورة كالصلاة أو الزكاة أو الصيام أو غير ذلك، وكان حديث عهدٍ بالإسلام أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن مظان العلم. (الفتاوى: 3/229-231). أصل (387): "التكفيرُ قد يكونُ حكماً صادراً على معيّنٍ، فردٍ أو جماعةٍ، وقد يكونُ مطلقاً، فيجبُ التفريقُ بين الإطلاقِ والتعيينِ". مثال الأول: فتوى الإمام ابن تيمية بكفرِ التتارِ الناطقين بالشهادتين، لما سُئل عن حكمهم. ومثال الثاني: قولَ الإمامِ أحـمد: من قال: القرآنُ مخلوقٌ فقد كفر. (الفتاوى: 28/501-509). أصل (388): "الحقوق نوعان: حقُّ الله وحقّ الآدميّ، فحقُّ الله لا مدخلَ للصلحِ فيه، كالحدودِ والزكوات والكفارات، أمّا حقوق الآدميين فهي التي تَقبلُ الصلحَ والإسقاطَ والمعاوضةَ". (الموافقات: 1/135). أصل (389): "العلم ليس مقصوداً لذاته بل للعمل به الذي هو التعبّد المأمور". والدليل على ذلك أمور: (1) كلّ علمٍ لا يُفيد عملاً فليس في الشرع ما يدلّ على استحسانه. (2) الشرع جاء بالتعبّد وهو المقصود من بعثة الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]. (3) الأدلّة الدالّة على أنّ روح العلم هو العمل وإلاّ فالعلم وحده غير نافع. قال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]. وقال: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]. وفي الحديث الصحيح إنّ من الثلاثة الذين تسعر بهم جهنّم "رجلٌ تعلّم القرآن ليُقال: فلانٌ قارئ". (الموافقات: 1/154). أصل (390): "الواجباتُ الماليةِ تنقسمُ إِلى: واجبٍ راتبٍ وواجبٍ عارضٍ ". فالزكاةُ هي الواجبُ الراتبُ وتجبُ بسبب المالِ. والواجبُ العارضُ هو صلةُ الأرحامِ وهي واجبةٌ بالإجماعِ. وقِرَيْ الضيفِ والإعطاءِ في النوائبِ. وفي الحديث: ‹‹أربعٌ من فعلهنّ فقد برِئ من البُخلِ: من آتى الزكاةَ وقرى الضيفَ ووصل الرِّحمَ وأعطى في النائبةِ››. (الفتاوى: 29/185). الأصل (391): "لا بُدّ من أخذ العلم عن أهله". وهذا له طريقان: (الأول) المشافهة: وهي أنفع الطريقين وأسلمهما، كما كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون مع الصحابة. (الثاني) مطالعة كتب المصنّفين: ومدوّني الدواوين وهو أيضاً نافع بشرطين: (1) أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتمّ له به النظر في الكتب، وهذا يحصل بالطريق الأول، وهو معنى قول من قال: "كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال". (2) أن يتحرّى كتب المتقدّمين من أهل العلم. (الموافقات: 1/85). أصل (392): "من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقِب بحرمانه". كمن قتل وليه ليرثه يحرَّم من الميراث، وكذلك ميراث المبتوتة في المرض لها حقّها من الميراث. (الموافقات: 1/233). (الأشباه والنظائر: 169). أصل (393): "العُقود تصحّ بكلّ ما دلّ على مقصودها". فتقوم الكتابة والإشارة أو ما تعارف عليه الناس مقام العبارة. ويُعلم ذلك من وجوه: (الأول) إنّ الله اكتفى بالتراضي في البيع في قوله تعالى: ﴿إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]. وبطيب النفس بالتبرّع في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: 4]. ومعلوم من عادات الناس أنّهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعدّدة. (الثاني) أنّ البيع والهبة والإجارة ونحوها لم يحد لها الشرع حدّاً، فلا يمكن أن يُقال: أنّ عيّن ألفاظاً للعقود. وكذلك ليس لها حدّ في اللغة بحيث يمكن أن يُقال هذا بيعٌ في لغة العرب وليس هذا بيعاً بل الكلّ بيعٌ في لغتهم، والأصل بقاء اللغة. فإذا لم يكن له في الشرع ولا في اللغة حدٌّ كان المرجع فيه إلى عُرف الناس، فما سمّوه بيعاً فهو بيعٌ، وما سمّوه هِبةً فهو هبةٌ. (الثالث) أنّ العادات أصلها عدم الحظر فلا يُحظَر منه إلاّ حظره الله تعالى. (الفتاوى: 29/13-17). أصل (394): "الضرورات تبيح المحظورات". (شرح الكوكب المنير: 4/444). لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]. أصل (395): "قول النبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ قاطعٌ على من سمعه منه شفاهاً فأمّا غيره فينقسم في حقّه قسمين تواتراً وآحاداً". (فالأول) جيل الصحابة. (والثاني) الأجيال التي تلت جيل الصحابة. أصل (396): "ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم شرعاً لازماً فلا يمكن تغييره". وما شرعه لسبب كان مشروعاً عند وجود السبب. مثال الأول: السنن الراتبة وصوم عاشوراء. ومثال الثاني: القنوت في النوازل وسنة تحية المسجد. (الفتاوى: 33/93-95). أصل (397): "الأنبياء معصومون عن الكبائر والفواحش إجماعاً". لأنّ الله اختارهم ليكونوا أئمة وأسوةً للأمم. (المسودّة: 77). أصل (398): "لا ينسب للساكت قولٌ". قاله الشافعي. فلا يُنسب للساكت قول في أمر اختُلف فيه، ولكنّ من سكت عن ردّ قول الكُفر صار سكوته رِضىً به إذا لم يكن خائفاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140]. أصل (399): "الجماعة التي أمر الشرع بلزومها هي جماعة العلماء والمتّبعون للكتاب والسنّة وإن كانوا قلّة، والعامّة داخلة فيها إذا كانت مقتدية بالعلماء". قال الإمام الشاطبي في (الاعتصام): المسألة السادسة عشرة : أن رواية من روى في تفسير الفرقة الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى - وهى قوله ما أنا عليه وأصحابى - فمعنى لفظ الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية. وصح من حديث حذيفة قال قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال نعم -قلت وهل بعد ذلك الشر من خير- قال نعم وفيه دخن -قلت وما دخنه قال- قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر - قلت فهل بعد ذلك الخير من شر قال - نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها - قلت يا رسول الله صفهم لنا؟ قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم - قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك وخرج الترمذي والطبري عن ابن عمر قال خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة لا يخلون رجل بامرأة فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان - الشيطان مع الواحد وهم من الأثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا يجمع أمتى على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار» وخرج أبو داود عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» وعن عرفجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في أمتى هنيات وهنيات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان». فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبى غالب إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود فروى أنه لما قُتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة، فقال: "عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر. وقال إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة". وقال ابن مسعود "عليكم بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة". وعن الحسين قيل له أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة. فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدوا الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال. والثاني إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام إن الله لن يجمع امتى على ضلالة وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها. فمعنى قوله "لن تجتمع امتى لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة". وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك وإسحاق ابن راهويه وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل لعبد الله بن المبارك من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم قال أبو بكر وعمر -فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد ابن ثابت والحسين بن واقد- فقيل هؤلاء ماتوا فمن الأحياء قال أبو حمزة السكرى وعن المسيب بن رافع قال كانوا إذا جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافى الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لانه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يحالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد بهم فيه في غير المسألة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للإجماع فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا والثالث: إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة اصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام «ولا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله». وقوله «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس». فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر قالوا - وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال كان عمر بن عبد العزيز يقول سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال الطاعة لله وقوة على دين الله - ليس لاحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا. فقال مالك - فأعجبني عزم عمر على ذلك فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام ما أنا عليه وأصحابي فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بذلك خصوصا في قوله فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين وأشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم، فإذاً كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا قطعا على هذا القول والرابع: إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه قال الشافعي الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة وكأن هذا القول يرجع إلى الثانى وهو يقتضى أيضا ما يقتضيه او يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون من اجتماعهم على هذا القول بدعة اصلا فهم - إذا - الفرقة الناجية والخامس: ما اختاره الطبرى الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدوا إحدى حالتين - إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتلها وسماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان». قال الطبري فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة قال وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصارى وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السواد الأعظم قال: وقد بيّن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروى عن عمرو ابن ميمون الأودي قال قال - عمر حين طعن لصهيب - صل بالناس ثلاثا وليدخل على عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شىء فقم يا صهيب على رءوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رؤوسهما حتى يستوثقوا على رجل، قال - فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم. قال وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما أنابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى وتحر في اكثر اللفظ وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم. فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك اصلا ويبنى عليه معنى آخر وهى المسألة السابعة عشرة وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليها العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول أحد إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث بل الأمر وبالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم ومن هنا لما سُئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال ابو بكر وعمر - قال - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين ابن واقد قيل فهؤلاء ماتوا فمن الأحياء قال أبو حمزة السكرى وهو محمد ابن ميمون المروزى فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد وأيضا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمى في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح إن الله لا يقبض العلم انتزاعا الحديث روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسى قال سمعت إسحاق بن راهويه وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم - فقال رجل يا أبا يعقوب من السواد الأعظم فقال محمد اسلم وأصحابه ومن تبعهم - ثم قال سأل رجل ابن المبارك من السواد الأعظم قال أبو حمزة السكرى - ثم قال إسحاق في ذلك الزمان يعنى أبا حمزة وفي زماننا محمد ابن اسلم ومن تبعه - ثم قال إسحاق لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا جماعة الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة - ثم قال إسحاق لم اسمع عالما منذ خمسين سنة كان اشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن اسلم فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله. (الاعتصام: 2/476-483). أصل (400) : "البدعة هي طريقة في الدِّين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه". فمن أحدث في الدِّين أعمالاً يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد فقد ابتدع. أما ما كان أصولها موجودةً في الشرع فإحداثها لا يكون ابتداعاً في الدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة. (الاعتصـام: 1/27). أصل (401): "كل ما يتعلّق به الخطاب الشرعي يتعلّق به الابتداع". الخطاب الشرعي يتعلّق بأقسام أربعة وكذلك البدعة: (الأول) الاعتقاد: ثبت في الشرع أمورٌ كثيرةٌ يجب أن يعتقدها المسلم، فمن أحدث عقائد زائدة لم يَرِد بِها نصٌّ فقد وقع في البدعة مثل: نفي صفات الله ورؤيته، واعتقاد المسلم كافراً لمجرّد وقوعه في الكبيرة، واعتقاد أنّ الذنب لا يضرّ مع الإيمان، واعتقاد مشابهة الله لبعض خلقه ... إلخ. (الثاني) وثبت في الشرع أقوالٌ تُقال لأجل التعبُّد فمن أحدث أقوالاً مبالغة في التعبُّد فقد وقع في البدعة. مثل: القول في الآذان: "حيّ على خير العمل" أو "عليٌّ ولي الله". (الثالث) وثبت في الشرع أفعالٌ كثيرةٌ مطلوبة وجوباً أو ندباً فمن زاد فيها واعتقد الإيجاب أو الندب فيما زاد فقد وقع في البدعة مثل: السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل: الاجتماع في بعض الأيام والشهور لأجل قراءة أذكار معينة، وما إلى ذلك. (الرابع) وثبت في الشرع أفعالٌ تطلب تركها تحريماً أو كراهة فمن زاد فيها وترك ما لم يأمر الله بتركه واعتقد فيه التحريم أو الكراهة بلا حجة فقد وقع في البدعة. (الاعتصـام: 1/32). أصل (402): "كلُّ بدعةٍ ضلالة". وهذا حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم .. فالعقائد والعبادات توقيفية، ومن أحدث ما ليس في كتاب الله فهو ردٌّ. والبدعة تنقسم إلى قسمين: (الأول) الشرعية: وهي التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي الضلالة، أي إحداث شيء في الدين ليس منه. (الثاني) اللغوية: كل ما كان فعلُه طارئاً وجديداً وإن كان من الممكن أن يستند إلى أصل شرعي .. وبهذا فسّر قول عمر في التراويح: "نعمت البدعة". فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاّها وصلّى معه ناسٌ فخاف أن تفرض على المسلمين فتركها. فلما توفي صلى الله عليه وسلم رأى عمر مشروعيتها وزوال مانعها، فجمع المسلمين على إمام واحد. اقتضاء الصراط المستقيم: 276-278 أصل (403): "مناشئ الابتداع هي: الجهل بالمقاصد وتحسين الظنّ بالعقل واتّباع الهوى". فللنجاة من ذلك يجب على الناظر أمور: (الأول) أن يكون عربياً في اللسان أو كالعربي. (الثاني) أن يرجع إلى أهل العلم فيما أشكل عليه. (الثالث) أن يعتقد كمال الشريعة وعدم احتياجها إلى إكمال. (الرابع) أن يعتقد خلو الأدلّة الشرعية من اختلاف التضاد وأنّ الشريعة على قولٍ واحد. (الخامس) أن يجعل الشريعة حاكمة والعقل تابعاً. (السادس) أن يعلم أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلّف من داعية هواه، وأنّ من صار عبداً لهواه لم يستفد شيئاً من إرسال الرسول وإنزال الكتاب. الاعتصام: 500-531 أصل (404): "المكلّف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة". (الأول) أن يكون مجتهداً فيها: فعليه أن يتّبع ما أداه إليه اجتهاده، ولا يسعه التقليد في أمرٍ بان له وجه الصواب فيه. (الثاني) أن يكون مقلّداً صرفاً: فلا بد له من عالم يقتدي به. (الثالث) أن يكون غير بالغٍ مبلغ المجتهدين لكنّه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجّحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه له موقفان: (الأول) يكون فيه كالمجتهد وذلك فيما بان له من حقٍّ تشهد له الأدلّة. (الثاني) يكون فيه كالعامي وذلك فيما عجز عن إدراك الحقّ فيه فيكون واجباً عليه طلبُ العلم من أهله. (الاعتصام: 534-535) أصل (405): "الكفر بالمآل ليس كفراً في الحال". أيّ أنّ من ابتدع بدعةً تؤول إلى الكفر أو يلزم منها ما هو كفرٌ فإنّ التحقيق أنّ المبتدع لا يكفَّر بما تؤول به بدعته حتى يلتزم ذلك الكفر ويتّخذه مذهباً، لأنّ لازم المذهب ليس مذهباً حتى يلتزمه. أصل (406) : "الفِرق المبتدعة اتّفق السلف على تضليلهم ولم يتّفقوا على تكفيرهم". والمراد من لم تُخرجه بدعته من الإسلام لله إلى الشرك والكفر به، وإنّما خالف ما ثبت في الكتاب والسنّة من الاعتقادات التي أجمع عليها السلف والذي حملهم على ذلك لم يكن حباً في المخالفة، بل طلب التحقيق والاستقامة بالجهل فغلبتهم أهواؤهم. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ هذه الفرق ستكثر حتى تبلغ ثنتين وسبعين. فقد صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرّقت اليهود على احدى وسبعين فرقةً، والنصارى مثل ذلك وتتفرّق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقةً». وفي الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو: «كلّهم في النار إلاّ ملّة واحدة» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟. قال: «ما أنا عليه وأصحابي». وفي سنن أبي داود من حديث معاوية رضي الله عنه: «وواحدة في الجنّة وهي الجماعة». وليس في الحديث تعيينٌ للفرق وذكر أسمائهم، ولكن فهم علماء السلف أنّه يعنى الفرق المعروفة في الإسلام التي وقعت في البدع، فاتّفقوا على تضليلهم ولم يتّفقوا على تكفيرهم جملةً. قال شيخ الإسلام: "وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك ـ وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين ـ قالا‏:‏ أصول البدع أربعة‏:‏ الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة‏.‏ فقيل لابن المبارك‏:‏ والجهمية‏؟‏ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد‏.‏ وكان يقول‏:‏ إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية‏.‏ وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا‏:‏ إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة‏.‏ وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء‏:‏ يكون كل طائفة من ‏[‏المبتدعة الخمسة‏]‏ اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين‏:‏ يكون كل طائفة من ‏[‏المبتدعة الأربعة‏]‏ ثمانية عشر فرقة‏.‏ وهذا يبني على أصل آخر، وهو‏:‏ تكفير أهل البدع‏.‏ فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم؛ فإنه لا يكفر سائر أهل البدع، بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله‏:‏ ‏(‏هم في النار‏)‏ مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره، كما قال تعالى‏:‏ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏‏.‏ ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين‏:‏ منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين‏.‏ وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير‏[‏المرجئة‏]‏ و‏[‏الشيعة‏]‏ المفضلة ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع ـ من هؤلاء وغيرهم ـ خلافًا عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم‏.‏ وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة‏.‏ ومنهم من لم يكفر أحدًا من هؤلاء إلحاقًا لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا‏: ‏فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدًا بذنب،فكذلك لا يكفرون أحدًا ببدعة‏.‏ والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير ‏[‏الجهمية المحضة‏]‏، الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لايرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات‏.‏ وأما الخوارج والروافض، ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره‏.‏ وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال‏.‏ وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقًا؛ فإن الله منذ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة، صار الناس ثلاثة أصناف‏:‏ مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخف بالكفر؛ ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشرة آية في المنافقين‏.‏ وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله‏:‏ ‏﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏. وقوله‏:‏ ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ ‏[‏النساء‏: ‏140]‏. وقوله‏:‏ ﴿فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ‏[‏الحديد‏:‏ 15‏]‏. وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار، كما قال تعالى‏:‏ ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏. وكما قال‏:‏ ﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾‏‏ [‏التوبة‏:‏ 84‏]‏. وكما قال‏:‏ ﴿قلْ أَنفقوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ. وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ ‏[‏التوبة‏:‏ 53-54‏]‏‏.‏ وإذا كان كذلك، فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة‏.‏ وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا‏.‏ وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم‏.‏ ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًِا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولا مغفورًا له خطؤه ، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين‏.‏ والأصل الثاني‏: أن المقالة تكون كفرًا، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع؛ فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله‏. (الفتاوى: 3/35). أصل (407): "الاستدلال قبل الاعتقاد". فعندما يعلم الإنسان أو يسمع بخبر من الأخبار فإنّه يعتقد صحته أو بطلانه ولذا صار الناس أمام الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين وكافرين. ولهذا قيل "الاعتقاد فرعٌ عن العلم" و "أن الاستدلال قبل الاعتقاد". أما من اعتقد ثم استدلّ لمعتقده فقد ضلّ واتّبع هواه.