(الثاني والعشرون) دار الإسلام ودار الكفر 249) ينسبُون الديار إلى ساكنيها، وهذا هو الصحيحٌ لغة وشرعا، لأنَّ كلمة "الدار" تطلقُ على كلِّ موضع للإقامة. فموضع إقامة الكافرين هو: "دار الكافرين". وموضع إقامة المسلمين هو: "دار المسلمين". قال تعالى: "سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" (الأعراف:145). أي:دار الكافرين. 250) ومسألة تقسيم الديار إلى "دار إسلام" و "دار كفر"، عندهم مسألةٌ ثابتة في الكتاب والسنّة، لأنَّ الله أمر بالبراءة من أهل الشرك، وأمر بالهجرة من دارهم إلى دار الإسلام، وأمر بغزو ديارهم. فتبيَّن من ذلك أنَّ هذا التقسيم واقعيٌ وشرعيٌ، وليس مُجرَّد اصطلاحات فقهية قابلةٌ للخطأ والصواب. قال اللهُ تعالى عن بعض مُدَّعي الإسلام: " فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (النساء:89)، أيْ: حَتَّى يُهَاجِرُوا من دار الكفر، أو قُلْ: من أرض الكفر، أو بلاد الكفر لأنَّ المعنى واحدٌ، إلى دار الإسلام، أو قُلْ: إلى أرض الإسلام، أو بلاد الإسلام، لأنَّ المعنى واحدٌ. 251) يُطلقُون على القرية اسم "القرية الكافرة"، أو "القرية الظالمة"، أو "القرية الفاسقة"، إذا كانت الغلبة فيها لأهل الكفر والظلم والفسق، وتُجرى عليها أحكام الكُفر، ولو كان فيها أفضلُ أهل زمانهم خلقا ودينا. وقال تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112]. والقرية مكَّة، فجاز القول بـ "كفرت مكَّة"، مع وجود أفضل خلق الله فيها، وذلك لكُفر أهلها، الَّذين كانت لهم الغلبة والكلمة النَّافذة فيها، وإعراضهم عن كتاب ربِّهم. قال اللهُ تعالى: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا" [النساء:75]. فقد صارت مكّة مع –فضلها- قرية ظالمة، مع وجُود الصحابة فيها، وذلك لكُفر أهلها، وإعراضهم عن كتاب ربِّهم. 252) ويُطلقُون كذلك على القوم اسم "القوم الكافرين"، أو "القوم الظالمين"، أو "القوم الفاسقين"، إذا كانت الغلبة والكلمة النافذة فيهم لأهل الكفر والظلم والفسق، وتُجرى عليهم أحكام الكُفر، ولو كان فيها أفضلُ أهل زمانهم خلقا ودينا. قال تعالى عن قوم لُوط عليه السلام: "إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ" [الأنبياء: 74]. فاستحقُّوا الوصف بالسُوء والفسق، ولُوطٌ بين أظهرهم. لأنَّ الغلبة كانت لأهل الكُفر وأحكامهم. وقال: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الأنعام: 74]. فاستحقُوا وصف "الضلال"، وإبراهيم عليه السلام بين أظهرهم. لأنَّ الغلبة كانت لأهل الكُفر وأحكامهم. 253) يُؤمنُون بأنَّهُ يستحيلُ أن يتَّفق أهلُ الدار الواحدة على إجراء أحكام الكُفر عليهم، إذا كَانُوا كلُّهم على الإيمان والإسلام. وكذلك يستحيلُ أن يتَّفق أهلُ الدار الواحدة على إجراء أحكام الكُفر عليهم، وفيهم مُؤمنُون لهم غلبة وسُلطان. بل لا يتَّفقُ أهلُ دار على إجراء أحكام الكُفرِ، إلا والمُؤمنُون فيهم مقهُورون أو معدُومُون. 254) يُؤمنُون بأنَّ من فرَّق بين أهل دار واحدة، بعضها قادة وسادة مجاهرُون بالكُفرِ، وبعضُها عامة مُنقادة تابعة لأحكام الكُفر، وزعم أنَّ القادة كُفارٌ، والعامة مُؤمنة، أنَّهُ ضالٌّ مُخالفٌ للقُرآن. فإنَّ القرآن لم يُفرِّق بين المجتمع الواحد، المنقاد لأحكام واحدة، وإنَّما فرَّق بين المُنقادين لأحكام الكُفرِ، وبين المُتبرِّئين منهم. قال تعالى: "وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" (هود:59). وقال: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" (الزخرف:54) 255) يُؤمنُون بأنَّ الملأ والأتباع، في دار الكُفرِ، مشتركون فى الحكم والإثم وعقوبة الدنيا والآخرة. قال تعالى:" إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" (القصص:8) وقال:" فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (القصص:40) وقال: "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" (غافر:47ـ 48) وإذ لم يفرّق الله -عزَّ وجلَّ- بين "السادة" و"الأتباع" فى الحكم والتأثيم فى الدنيا والآخرة، فإنّ اتّخاذ التفريق بين الصنفين سبيلا ضلالٌ عن صراط الله المستقيم. 256) يُؤمنُون بأنَّ الدار تكون دار إسلام إذا كانت الغلبة فيها للمسلمين، وتحكم بما أنزل الله، وتقام فيها حدود الله، مع وجود أفراد وقبائل كافرة تعيش في داخلها. كما كانت المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قرية إسلامية، مع وجود ثلاث قبائل يهودية بها، وهي "قينقاع"، و "قريظة"، و "النضير" . وكذلك كانت جميع البلاد التي فتحها المسلمون في زمن الخلفاء الراشدين وبعده بلاداً ودياراً إسلامية، لغلبة المسلمين، وسريان أحكام الإسلام فيها، مع وجود طوائف بشرية كثيرة لم تعتنق الإسلام وتؤخذ منها الجزية كالمجوس وأهل الكتاب. وأن الدار تكون دار كفر، إذا كانت الغلبة فيها للكفّار، وتحكمُ بشرائع الكفّار، مع وجود أفراد أو جماعات من المسلمين، كما كانت مكّة دار كفر قبل الهجرة، مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة فيها. وقد بقى فيها مسلمون صادقون بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم منها. 257) يُؤمنُون بأنَّ دماء المُسلمين مُحرَّمةٌ مصُونة، حيثُ كانُوا، في دار الإسلام أو في دار الكُفرِ، كما أنَّ إسلام المرءِ يثبتُ حيث كان، في دار الإسلام وفي دار الكُفرِ. 258) يُؤمنُون بأنَّ الأصل أنَّ من كان في دار فهو من أهلها، إلا إذا ظهر ما يُخالفُ ذلك الأصل. ولذلك فإنَّ المُسلمَ الذي لم يقدر على إظهار دينه في دار الكُفر، إذا أُلحق بأهل الدار، أو قتل في الجهاد، فإنَّ المُسلمين معذُورُون، ويُبعثُ على نيَّته. قال تعالى: "ولو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيَّلوا لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" [الفتح:25] فالمنهيُّ عنه هو قتلُ المسلم بعد العلم بإسلامهِ، فإن لم يُعلم بإسلامه، ولم تكُن فُرصةٌ للتبيُّن، فإنَّهُ يُلحقُ بأهل الدار. فإنَّ الشرع إذا حكم بكفر قومٍ، وأمر بجهادهم، فلا سبيل إلى التفريق بينهم وبين المسلم الذي لا يُعلمُ بإسلامه إلا ببيِّنة ظاهرة، فإن انعدمت وجب العملُ بالأصل، وتركُ السرائر والنوايا إلى الله. 259) يقُولُون إنَّ الدار تتحوّلُ من دار كفر إلى دار إسلام وبالعكس. ومثال ذلك: كانت مصر دار كفر في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ تحولت إلى دار إسلام في زمن الفاروق، ثمّ صارت دار ردّة وبدعة ونفاق في زمن العبيديين، ثمّ صارت دار إسلام وسنّة في زمن صلاح الدين الأيوبيّ وبعده، ثم صارت دار كفر في زمن الحملة الفرنسيّة والإنجليزيّة وما بعدها. فالأمرُ يدورُ على السُلطان الغالب والأحكام السائرة. 260) يقُولُون بوجُوب دعوة اهل الجاهلية إلى الإسلام، والبقاء فيهم لهذا الغرض، عند عدم وجُود دار الإسلام، كما كان رسُل الله يصبرُون على البقاء بينهم حرصا على هدايتهم. وأمَّا عند وجودها، فإنَّ العاجز عن إظهار دينه، تجب عليه الهجرة من دار الكفرإلى دار الإسلام. 261) يُؤمنُون بأنَّ المسلمَ الَّذي في دار الكُفرِ، والَّتي تعلُو عليها كلمة الكُفر، إذا قام إلى الدعوة إلى الله، ووالَى من علم بإسلامه، وعامل من لم يعلم بإسلامه معاملة أهل دار الكُفر، في النِّكاح، والذبائح، والجنائز، والإمامة في الصلاة، وغير ذلك، أنَّهُ على صراط الله، وعلى هُدى مُستقيم، ولا يجُوزُ القولُ بأنَّهُ كفَّر مسلمين، أو ظلم أبرياء من الكُفرِ. 262) يُؤمنُون بأنَّ الكفر إذا غلب على المجتمع، واستُحلَّ ما ينقضُ الإيمان، فإنَّ البراءة واجبة، وأنَّ على من لم يقدر على إظهار دينه، أنْ يُهاجر منها، ولو إلى دار كُفر، يقدرُ فيها على إظهار دينه، إن كان قادراً على الهجرة. وإنَّ من الكُفر والنِّفاق مداهنتهم، أو التشكيك في كُفرهم الظاهر، لأجل البقاء في الحياة الدنيا الفانية. 263) يقولُون: إن الخطيئة إذا أخفيت لن تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة. ولذا فإنَّ الأمراءَ المسلمين إذا أظهروا المعاصي، فإنَّ من كره بقلبه، ولم يستطع الإنكار بيد ولا لسان، فقد برئ من الإثم، وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم فهو العاصي. وفي الحديث: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ. فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ. فَمَنْ عَرَفَ بَرِىءَ. وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ. وَلكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". قَالُوا: أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لاَ، مَا صَلَّوْا" (مسلم) 264) يقولُون: إن قُدرَ على عزل الأمير المسلم الفاسق بدون مفسدة تربُو على المصلحة التي في عزله، وجب ذلك، وإن كان لا يتمُّ ذلك إلا بمفسدة تربُو على المصلحة، وجب الصبر، واختيار أخفَّ الضررين.